هنري زغيب
غالبًا ما أُردِّد في كتاباتي ومحاضراتي أَن جبران مات يومًا (10نيسان/أَبريل1931) وما زال يولد كلَّ يوم، في طبعة جديدة، في ترجمة جديدة، في دراسة جديدة، أَو في وثيقة جديدة، كما حال هذه الثلاثية التي أَبدأُ بها اليوم.
حين كنتُ أَعمل على كتابي الصادر حديثًا عن جبران “هذا الرجل من لبنان” (منشورات “مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU) وجدتُ احتفالًا بجبران في ديترْوْيْت (مِتْشِيغَان) لم أَجد تفاصيل عنه سوى أَنه كان ليلة الجمعة 24 تشرين الأَول/أُكتوبر 1924، أَقامه “النادي التقدُّمي السوري الأَميركي” عشاءً تكريميًّا في “الصالة العربية” الكبرى لفندق تَلِر، حضرها عدد كبير من أَعضاء الجاليتَين اللبنانية والسورية، وكان تقديرًا من المنظِّمين حضورَ جبران في الجالية وآثارَه الأَدبية. قبل تلك الحفلة كان جبران كتب إِلى ماري هاسكل (16 تشرين الأَول/أُكتوبر 1924):”هي مأْدبةٌ ينوي إِقامتَها ناسٌ طيِّبون تكريمًا كتابَ “النبي”. لا أَعرف تمامًا ماذا يُـهَـيِّـــئُون لي هناك، لكنني سأَعود فورًا بعدها إِلى نيويورك”.
تسنى لي البحث عن أَهمية ذاك الفندق فإِذا هو فترتئِذٍ أَقدم وأَفخم فندق في المدينة، بناهُ في وسط ديترويت التجاري رجلُ الأَعمال لويس تَلِر (1869-1958) سنة 1906 من 6 طبقات، ثم أَضاف إِليه 4 طبقات سنة 1910، وبلغ 14 طبقة سنة 1914، وسنة 1923 افتتح فيه “الصالة العربية” التي تستوعب 600 شخص كانت يومها أَكبر صالة في ديترويت للاحتفالات والمؤْتمرات.
بحثتُ عن وثيقة لهذا الاحتفال في تلك القاعة الفخمة فوجدتُ صورة لدى مجموعة فارس وأَلِكسا ناف (أَصل الاسم نعَّاف من راشيا الوادي). والمجموعة الفوتوغرافية موثقة لدى “مؤَسسة سْمِيثْسونيان” – مركز المحفوظات في المتحف الوطني للتاريخ الأَميركي (واشنطن). الصورة تحمل الرقم 69 بين صوَر تلك الحفلة التي تولَّى تصويرها “ستوديو كْرافْتْ” أَشهر مركز تصوير يومها في ديترويت. ويبدو المحتفى به جبران جالسًا إِلى طاولة الشرف في عُمق الصالة إِلى يمين الموسيقيين على الـمنصَّة.
وصدر كتابي بما أَمكنني بُلُوغه عن ذاك الاحتفال.
وإِذ كنتُ قبل أَيام أَتصفح من جديد كتاب “أقلب الصفحة يا فتى” الصادر سنة 2010 عن لجنة جبران الوطنية بتحقيق وهيب كيروز حافظ متحف جبران (بشرّي)، لفَتَتْني مخطوطة على ورقة تجارية باسم “محلات شاميّة إِخوان للخُضَر والفواكه” – ديترْوْيْت. قرأْتُها فإِذا هي خطاب تقديم جبران في احتفال ديترْوْيْت، مكتوبٌ على الوجه والمقلب من تلك الورقة التجارية. بحثْتُ مع أَصدقاء وعارفين فلم يُفِدْني أَحد عمَّن يكون كاتبَه ومُلْقيه. على أَنني لن أُفَوِّت فرصة نشْره، لعلَّ مَن يقرأُه في “النهار العربي” يعرف ذاك الخطيبَ مقدِّمَ الاحتفال فتكتملُ المعلومة.
للأَمانة العلمية أَنْشُرُ الخطاب كما هو، ممتدًّا على ثلاث حلقات، في الثالثة منها أُعلِّق على ما فيه من تعابير لغوية ومدلول مضمونيّ زمنيّ كان في تداوُل الجالية اللبنانية أَميركيًّا عهدذاك.
هنا القسْم الأَول من الخطاب:
“صفْحًا لهذا الدهر عن هَفَواتِهِ ما دام هذا اليومُ من حَسَناتِهِ
لو كان للَّيالي لسانٌ ينطق بالفَخَار، وبيانٌ يَجري بنظْم الأَشعار، لأَنشَدَتْ هذه الليلةُ قصيدةً رائعة في وصْف هذه الحفلة الساطعة. ولو تسنَّى للدهر أَن يُفصِح عن ابتهاجه، لأَنبَأَنا بأَنه ادَّخر هذه الليلةَ غُرَّة نَسَبه ودُرَّة تاجه. كيف لا وقد تمتَّعنا في هذه الحفلة الرائقة بكل نعمة شائقة. فانتظامٌ أَنيق، وترتيبٌ رقيق، ونثْرٌ كالعقيق، ونظْمٌ كالرحيق، في مجلسٍ قد جمَع بين السماحة والـمَلاحة، والكمال والجمال، والرصانة والفطانة، يزدان بنُخبة من خِيرة الوطنيين وعِلْية الأَميركيين من سيِّدات وسادة، كلُّهُن حسانٌ فاضلات وكلُّهم كِرام. وقد أَقْبلْنا جميعًا تلبيةً لدعوة “النادي السوري الأَميركي” لنحتفلَ بنابغةٍ أَنْجَبَتْه سوريا المحبوبة ابنًا فَطِنًا فصيحَ اللسان، عذْبَ البيان:
تجري السلاسةُ في أَثناء منطقه تحت الفصاحة جَرْيَ الماء في العُودِ
في كل لفْظٍ له ماءٌ يرقُّ به يَغارُ من ذكْره ماءُ العناقيدِ
هو الكاتبُ العصريُّ المبتكِر والأَديبُ النابغةُ المقتدِر، الطائرُ الصيت والذائعُ الشهرة جبران خليل جبران. وكفى بذكْر اسم جبران تعريفًا لمنزلة جبران في عالم الفن والأَدب. فقد سارت بذكْر جبران الرُكبان وطبَّقت شهرةُ جبران الخافقَين، حتى أَنكَ لن تجد بلادًا عربية لم تصلْها شهرةُ جبران، ولن ترى بين الناطقِين بالضاد مَن يُحسن القراءة والكتابة لم يتعشَّقْ روح جبران ويفتَتِنْ بيراعة جبران، هذا الأَديب الكبير الذي قال عنه “الهلال” الأَغَرُّ بأَنه “هو ذاك الذي يُعْتِق ذهنَك من عبودية التقليد، ويدلُّ العالَمَ والناسَ على غير ما أَلِفَتْ من الصُوَر، ويَبُثُّ في نفسكَ نزوةً إِلى التجديد، وشوقًا إِلى الإِصلاح والإِنصاف”.
وهو النابغةُ الممتازُ الذي عَرَّفَه الكاتب الحُر ميخائيل نعيمة إِلى قُرَّاء مجلة “الفنون” المحتجِبة في ما يلي: “جبران غنيٌّ بالمحبة، غنيٌّ بالإِخلاص، غنيٌّ بالرقَّة، غنيٌّ بالشعور الحي. كلماتُه أَجسامٌ لأَماني نفسه، وقيثارةٌ لدقَّات قلبه، وتماثيلُ ناطقةٌ لأَفكاره. وأَلفاظُه حديثٌ شجيٌّ من الروح إِلى الروح”.
وقد نوَّهَت مجلة “الفُنُون” الغرَّاء بمكانة نابغتنا الأَدبية في موضع آخر منها حيث قالت: “اسمُ جبران خليل جبران في الآداب العربية يستنزل على قلب مَن يعرفُه بهجةً نيِّرةً وإِعجابًا، ويحرِّك في قارئه شَواعرَ غزيرة صافية، تتدفَّق من نفْسٍ وَجدَت في كتاباته راحتَها ونورَها، وطريقَها المؤَدِّية إِلى قمم الحقيقة والفجر الروحي …”.
في الجزء الثاني من هذه الثلاثية: مقطع ثانٍ من الخطاب (“النهار العربي” – الجمعة المقبل).
كلام الصُوَر
- “الصالة العربية” الفخمة، وجبران في عُمق الصورة (الصورة الرئيسة)
- لقطة مكبَّرة للصورة ويبدو جبران ضمن الدائرة البيضاء
- فندق تلِر العريق في وسَط ديترُوْيْتْ التجاري
- الورقة التجارية (“شامية إِخوان – ديترُوْيْتْ مِتْشِيغَان”) المكتوب عليها الخطاب