هنري زغيب
في الجزء الأَول من هذا المقال سردتُ مسيرة هنري ماتيس في مراحلها المختلفة. في هذا الجزء الآخَر (والأَخير) أَتوقَّف عند “الستوديو الأَحمر” موضوع المعرض الكبير الذي يقيمُه حاليًا “متحف الفن الحديث” في نيويورك (أَيَّار/مايو – تشرين الثاني/نوفمبر 2022).
انطلاقًا من “سعادة الحياة”
يُؤْثَر عن ماتيس قولُه: “أَبحث دائمًا في الفن عن العناصر ذاتها التي كنتُ عملْتُ بها، إِنما لأُعالجها في مواضيع أُخرى”. وبالفعل، تكرَّس ماتيس رائد الحركة الجامحة (أَو “التوحُّشية” مع أَنني لا أُحب هذه التسمية)، ومعه فيها أَندريه دورين وجورج رُوُّوو وهنري شارل مانغان. ثم ظهرَا لوحة ماتيس الضخمة (175X240 سنتم) “سعادة الحياة” (1905) فلَفَتَت بأَلوانها الفاقعة ونساء فيها عاريات، وشكَّلت انطلاقة تلك “الحركة الجامحة”. وعندما عَرَضَها في “معرض المستقلِّين” (1906) أَثارت لغطًا أَكثر مما كانت أَثارتْه لوحته السابقة “السيدة ذات القبعة” (الجزء الأَول من هذا المقال).
لوحة “سعادة الحياة” الطليعية، الرائدة في حداثتها، كانت حافزًا لبيكاسو فوضَع لوحته الضخمة كذلك “آنسات آفينيون” (1907) بالأُسلوب الجديد ذاته، أَلوانًا وخطوطًا جديدة جريئة غير مأْلوفة. لكن حركة “الجامحين” لم تعِش طويلًا، لأَن بعضهم أَخذ منذ 1908 ينحو إلى الموجة التكعيبية الصاعدة.
في العقد الثاني من القرن العشرين، وضع ماتيس أَبرز أَعماله، منها لوحته الكبيرة “الراقصات” (1909) وضعَها بطلب من راعيه الصناعي الروسي فترتئذٍ سيرغاي شوكين، وتميَّزَت بقوّة الإِضاءة الساطعة في الأَلوان. ثم جاءت لوحتُه “درس في العزف على البيانو” (1916) في صميم الأُسلوب التكعيبي. وهو رسم فيها ابنه بيار من دون كثير ملامح، خصوصًا الحديقة الغامقة الظاهرة من فتحة النافذة. وكان ماتيس رسم تلك اللوحة فيما ذهب ابنه مجنَّدًا في الجيش الفرنسي إِبَّان الحرب العالمية الأُولى.
الانتقال إِلى نيس
سنة 1917 انتقل ماتيس للسكَن في سيمييز (ناحية راقية من مدينة نيس على شاطئ الريفييرا الفرنسية)، يكمل العمل في أُسلوبه النيوكلاسيكي الجديد الذي بدأَ فترتئذٍ يستقطب الإِعجاب وهواةَ اللوحات.
ومع انتهاء الحرب العالمية الأُولى فانتهت معها مرحلة الطليعية الباريسية. استأْجر ماتيس غرفة في فندق “بوريفاج” تطل على رمل الشاطئ مباشرةً. أَخذ ينهض باكرًا، يتناول فطورًا خفيفًا من مطعم الفندق، وينصرف إِلى الرسم بنَهَم غريب. فأَنتج عددًا كبيرًا من اللوحات تأَثُّرًا بما تطل عليه نافذته من ضوء ساطع بين البحر والفضاء.
سنة 1922 قام برحلة إِلى المغرب وبعض شمالي أَفريقيا، ورسَم مجموعة لوحات عن الجواري والإِماء في حرَمهن النسائي، عاد بها من رحلته فأَحدثَت ضجَّة كذلك لِما فيها، عدا العري غير الفاضح، من تفاصيل شرقية أَضافت مذاقًا خاصًّا على نكهة أَعماله.
بقي ماتيس في نيس حتى وفاته سنة 1954. وهو أَمضى آخر 15 سنة من حياته مقْعَدًا بسبب عملية جراحية أَلْزمته الفراش فأَنتج من فراشه كثافة مذهلة. وإِذ عجِز عن الوقوف أَو الجلوس أَمام الـمَلْوَن كي يضع لوحاته الزيتية، استعاض عن الريشة بالمقصّ، في عملية فنية إِبداعية خلاقة، مديرًا المقصّ في ورق عليه الغواش فأَطْلَع أَشكالًا هندسية غريبة وجميلة، ساعدَتْهُ على تنفيذها سكرتيرتُه في المحترف ليديا ديليكتورسْكايا. ومن إِنتاجه تلك الفترة تصاميم لكتاب “جاز” (1947)، وتكليفٌ من دير في مدينة فانس (على الشاطئ اللازَوَردي الفرنسي) بوضع تصميم 17 زجاجية وبعض الجدرانيات لكنيسة سيَّدة الوردية تم افتتاحها سنة 1951.
في صيف 1952، بعد رحلة له إِلى كانّ، طلب من سكرتيرته أَن تغطّي بالورق الأَبيض جدرانَ المطعم في فندق ريجينا، وراح بالمقصّ يُطْلع بالورق الأَزرق أَشكالًا من الحيونات البحرية، فإِذا بالنتيجة منظر بديع من البحر والفضاء على جدران المطعم.
“الستوديو الأَحمر”
عن ماتيس قولُه: “الفن الحديث يَنشر الفرح والسعادة بالأَلوان البهيجة التي تهدِّئ أَعصابنا”، وقولُه “المحترف عالَـم الرسام”. هكذا ملأَ بأَحمر تلك اللوحات محترفه الذي بناه وفْق تصميمه الخاص، شجَّعه عليه راعيه الروسي سنة 1909. وعرض فيه أَعماله بعناية، فكان يُمضي وقته كلَّه في هذا “المكان السحري” الذي هو عالمه الخاص بكل ما فيه من أَدوات ورسوم ولوحات. واشتُهر المحترَف بما سمّاه هو “الستوديو الأَحمر”، موضوع معرضه الحالي في نيويورك، وهو يضمُّ 6 لوحات، و3 منحوتات، وعملًا بالفخَّار (السيراميك)، كما كانت حين أَنشأَ ذاك الــ”ستوديو” سنة 1911. ولوحة “الستوديو الأَحمر” التي باسمها سُمّيَت المجموعة كلُّها، رسمها ماتيس سنة 1911 في الضاحية الباريسية “إيسي لي مولينو” (Issy-les-Moulineaux) ورسم فيها داخل المحترف بكل ما فيه من تفاصيل. هكذا نرى مثلًا نماذج صغيرة من أَعماله القديمة ملقاة إِلى الجدار. لا نافذة في المحترف ولا باب. وتبدو خطوط بيضاء خفيفة توحي بالزوايا، وساعة حائط كبيرة ضمن إِطار الخط الأَبيض الخفيف، وهي بدون عقْرَبَيْها فلا إِشارة فيها إِلى الوقت. وفي ذلك بعض منحى ماتيس أَن يخلق دومًا بعض الغموض في لوحاته فتبقى دائمًا مثار أَسئلة.
لوحة “الستوديو الأَحمر” ضخمة الحجم، تبلغ قماشتها 180 طولًا و215 سنتم عرضًا. وكانت تلك أَول لوحة تظهر فيها أَعمال ماتيس مثلما كانت مجموعةً في ذاك المحترف. وهي تعطي صورة عن حياة الفنان، وكيف رفَضَها راعيه الروسي ولم يُحبَّها، ورحلاته إِلى عدد من البلدان. وفي معرض نيويورك كذلك: أَدوات الرسم، وصوَر فوتوغرافية ورسائل، وعناصر شتّى تَشي بحياة الفنان وتاريخه.
طويلًا بقيَ محترف ماتيس مُهمَلًا بعد وفاته، ولم يهتمّ به أَحد، حتى جاء معرض نيويورك حاليًّا يعيدهُ إِلى الحياة: محترَفًا شهِدَ ولادة الفن الحديث ونقطة ارتكاز لتقليد الرسم داخل الستوديو (بعدما كان قبلذاك في الطبيعة).
بعد نيويورك، سينتقل المعرض إِلى الدانمارك لدى متحف “كانْسْتْ” في كوبنهاغن (من 13 تشرين الأَول/أُكتوبر 2022 إِلى 26 شباط/فبراير 2023).
ومع حركة هذا المعرض، بين نيويورك وكوبنهاغن، يعود إِلى الحركة فنان مبدع يُثْبتُ نتاجُه أَن الفن الأَصيل لا يموت مع السنوات، بل يغفو طويلًا حتى يجيْءَ مَن يوقظه فيوقظ معه صاحبَه ويُعيده إِلى الحياة من جديد بعد طُول مَوَات.
كلام الصُوَر:
- لوحة “الستوديو الأَحمر” رائعة ماتيس الخالدة (1911)
- تصميم الستوديو كما وضعه ماتيس وأَشرَفَ على تنفيذه
- صورة نادرة (1917) للمدخل إِلى الستوديو الأَحمر
- هكذا كان الستوديو من الداخل (صورة نادرة من 1911)