من أَغربِ ما سيسجِّلُ التاريخ عن هذه الحقْبة من لبنان، أَنَّ شعبَه كان ينتظر الحلَّ مِمَّن هُم المشكلة، وينتظر الخلاص يأْتيه مِمَّن سبَّبوا كوارثه ومآسيه، وينتظر عودة لبنان السعيد مِمَّن جعلوه أَتعس بلد في العالم.
في قصيدة سياسية لنزار قباني سنة 1968 عنوانُها “الممثِّلون”، جاء: “متى سترحلُون؟ المسرحُ انهارَ على رُؤُوسكم، متى سترحلون”؟ وجاء في ختامها: “إِحترَقَ المسرحُ من أَركانه ولم يَمُت بعدُ الممثِّلون”. وإِنه هكذا لبنان اليوم، كسائر الدوَل التوتاليتارية التي يَحكُمُها القهر الديكتاتوري، بات ممعوسًا بطبقة سياسية تَحْكُمه وتَتَحَكَّم به منذ عقود، وما زالت رابخةً على أَكتاف شعبه، على أُنوف شعبه، على رؤُوس شعبه، على تَنَفُّس شعبه، وتتحرك مخدَّرةً شعبَهُ بما سمَّته “ديموقراطية توافقية” فيما هي “ديكتاتورية مُقَنَّعة”، وموهمةً شعبنا أَنها تبحث له عن خلاص فيما هي لا تبحث إِلَّا عن تأْمين استمرارٍ وقِحٍ لها ولنَسْلها من بعدها. فالسياسيون ذاتُهم يتحرَّكون اليوم، وهم ذاتُهم كانوا يتحرَّكون. فكيف تصدِّق الضحيةُ وُعُود جلَّادها؟ وكيف تؤْمن بأَنَّ واضعَ النير بِيَدِه على رقاب الشعب هو الذي بِيَدِه ذاتها سيَرفع النير؟ لا أَعرف من قال يومًا هذا البيت من الشِعر: “لأَشَدُّ من أَسْري وِثاقًا أَن أَرى يَدَ واثقي يومًا تَفُكُّ وِثاقي”. وهو ينطبق جدًا على قسمٍ من شعبنا ما زال يؤْمن ساذجًا بأَنَّ خلاص لبنان سيكون على يَدِ هؤُلاء السياسيين، وما زال يَتَتَبَّعُ أَخبارهم ويتحمَّس لهذا ضدَّ ذاك، وينتظر تصاريحهم التي باتت في معظمها شتائِمَ وَقِحَة واتهاماتٍ رعناء.
قلت إِنه “قسم من شعبنا” ولم أَقُل كُلَّ شعبنا. لأَن في شعبنا كثيرين رافضين هذه الطبقَة الحاكمة ومحاسيبَها وأَزلامها ونَسْلَها، لا يؤْمنون بها وبما يُطبَخُ في دهاليز الداخل والخارج من صفقات على حساب شعبنا.
هؤلاء الكثيرون الرافضون، أَسمعُ رفْضَهم يصرخ كل يوم: “من أَنتم يا هؤُلاء الذين يُصادرون الهيكل؟ يا من شوَّهتُم صورة لبنان في العالَم، وتدَّعون إِنقاذ لبنانَ من التشويه. إِننا نَنْفَصِلُ عنكم، ولن نَطلُبَ منكم أَن تُعيدوا إِلينا لبنان الذي أَحرقْتُموه كي تَتَأَبَّدوا على كراسي حُكْمه. حَجَبْتُم عن العالَم وجهَ لبنان الحقيقي وجعَلتُموه قبيحًا كوجوهكم القبيحة. لن تُعيدوه إِلينا لبنان الحقيقي بل ستعيدونه على صورتكم، بَشِعًا على صورتكُم، مُشوَّهًا على صورتكم، مارقًا على صورتكم، فلا حلَّ لنا إِلَّا واحدًا وحيدًا: حلُّوا عنا. إِنَّ في لبنان مبدعين في كلِّ حقل مالي واقتصادي وحتى سياسيٍّ نقيٍّ، هُم الذين قادرون على إِنقاذ لبنان، لكنَّكم تقْطَعون عليهم الطريق. وكيف يصل المنْقذون حين في صدر الوقاحة يَتَرَبَّصُ بهم قُطَّاع الطُرُق”؟
بلى: هكذا أَسمع الكثيرين من شَعبنا يصرُخون كلَّ يوم، فيما كثيرون ما زالوا أَغنامًا مسيَّرين غافِلين أَغبياء مَدْسوسين مأْجورين.
خلاصُ لبنان لن يكونَ على أَيدي الذين تَمْلأُ أَخبارُهم وتصاريحهم صفحاتٍ وشاشات، بل على أَيدي الذين أَيديهم نظيفة، ونواياهم نظيفة، ومواهبهم نظيفة.
لكنَّ ما ينقصُ وُصُولهم، جدارٌ حقيرٌ بين الحكْم وقُطَّاع الطُرُق.
ويا تعْسَ بلدٍ على مَداخله ومَفاصله وتَنَفُّسِه يسيطِر قطَّاعُ الطُرُق.