هنري زغيب
تكرَّست جُوَانَّا ڤان غوخ، بعد وفاة زوجها تِيُو (تِيُودُورس)، لتنفيذ رغبته/الوصية بتنسيق لوحات شقيقه ڤِنْسِنْت وتسويقها، فراحت تهتم بتربية ابنها الوحيد ڤِنْسِنْت (على اسم عمِّه الرسام الراحل)، وبتنسيق إِرث سِلْفِها على ضخامة هذا الإِرث، لوحاتٍ ورُسُومًا ورسائلَ بالمئات.
تَرَسُّلُ امرأَة وفية
عن هانس لوجْتِن (كاتب سيرتها المفصَّلة) أَنها بين وفاة زوجها (1891) ووفاتها (1925، أَي بعد 35 سنة على وفاة الرسام سنة 1890) أَمضت نحو 40 سنة متواصلة تعمل على نشْر هذا التراث بلا كلَل ولا انكفاء. راحت تعرض تلك اللوحات وتعرِّف بأُسلوبها، إِذ كانت أَعمال ڤان غوخ فترتئذٍ شديدةَ العصرية والحداثة في عيون هواة اللوحات ومقتنيها. لذا راحت جُوَانَّا تبيع لوحاتٍ مختارة منتقاة، وأَوحت إِلى الكُتَّاب والنقاد أَن يكتبوا عنها. وأَعارت بعض المتاحف لوحاتٍ لتعرضها وأَقامت معارض كثيرة فتمكَّنَت بين 1891 و1925 من بيع 192 لوحة و55 رسمًا على الورق، منها لوحة “دوار الشمس” اشتراها سنة 1924 المتحف الوطني في لندن.
نشْر الرسائل
عملية أُخرى سنة 1914: نشرت جُوَانَّا بعض رسائل الرسام إِلى شقيقه تِيُو، وكتبَت لها مقدمة بيوغرافية، وترجمت نحو ثلثها إِلى الإنكليزية. وهو كتب له مئاتٍ حفظَها تِيُو وآلت جميعها إِلى جُوَانَّا. كان لصدور تلك الرسائل تأْثير إِيجابي كبير على شهرة ڤان غوخ إِذ انكشف للكثيرين ممن أَخذوا يقْبِلون على أَعماله. وكان ڤِنْسِنْت، إِلى براعة أُسلوبه رسامًا، ذا أُسلوب أَخَّاذ في الكتابة أَيضًا، تتَّضح منها ملامحُ بيِّنة من شخصيته ومزاجه وطبيعته المتقلِّبة. وعن بعض النقاد أَن جُوَانَّا عمدَت إِلى حذف مقاطع من الرسائل ذات علاقة بأُمور عائلية خاصة وجنسية، فلم تنشُر سوى 40 رسالة بنصها الكامل. أَما رسائل ڤِنْسِنْت من شقيقِه أَو من سواه فكان يُحرقها فورًا بعد قراءَتها. وما إِن صدرت الرسائل في كتاب حتى تناولتْها الترجمات إلى لغات كثيرة في العالم.
ڤِنْسِنْت جونيور
بعد وفاة جُوَانَّا سنة 1925 بمرض الپاركنسون، آلت جميع اللوحات والرسوم والنُصوص إِلى ابنها ڤِنْسِنْت-وليام ڤان غوخ (1890-1978). وهو أَكمل رسالة والدته فأَنشأَ سنة 1966 “مؤَسسة ڤِنْسِنْت ڤان غوخ” و”متحف ڤان غوخ” حتى يَسْهُلَ على الجميع بلوغُ أَعمال عمِّه. واليوم، ابنه وليام مستشارٌ أَوَّلُ في “متحف ڤان غوخ”.
هكذا يثبْتُ أَن ڤان غوخ، برغم سُطوعه وبراعته، ما كان يمكن أَن يَبْلُغَ ما بلغَه عالميًا من شُهرة وخُلود لولا جهود زوجة شقيقه جُوَانَّا ذات الشخصية القوية التي عملَت وحدها في مجتمع ذكوري فقاومت أَخصامًا في عالم الرسم كانوا يحاولون طمْس ذاك الفنان العبقري. وهذا ما فصَّله هانس لوجْتِن في السيرة التي وضعها عنها، جازمًا أَنَّ “ما حقَّقَتْه جُوَانَّا في حياتها، بعد فترة قصيرة على زواجها من تِيُو وفقدانها إِياه بعد سنتين، كان عملًا جبارًا أَجدرَ بمؤَسسة كبرى”.
العمل الدَؤُوب
مع أَن جُوَانَّا كانت ترغب في الانصراف إِلى العمل الاجتماعي (ساهمَت في تأْسيس “نادي أَمستردام الاشتراكي الديمقراطي للنساء”، بغْيَة تحسين وضع المرأَة العاملة معيشيًّا ومهنيًّا وتربويًّا) إِلَّا أَنها نسيَت حالها وانصرفَت كلِّيًّا إِلى الاهتمام بالإِرث الكبير بين يديها، وكتبَت عنه في إِحدى يومياتها: “هذا عمل يرضيني لأَنه الوحيد الذي أَقوم به وفاءً لوصية زوجي ولذكرى ڤِنْسِنْت”.
لم تكُن جُوَانَّا بعيدة عن الوسَط الفني. فهي درسَت الإِنكليزية، وكانت عازفة پــيانو، وعاشت فترةً في لندن تعمل في مكتبة المتحف البريطاني. تزوَّجت تِيُو سنة 1889 بعد قصة حب عاصفة، ووَلَدت بكْرها (ووحيدها) سنة 1890 ليموت زوجها بعد سنة. لكنها سنة 1914 نقلَت رفاته من أُوترخت (هولندا) إِلى أُوڤير سُورْوَاز (فرنسا) ليكون ضريحه حدَّ ضريح شقيقه الفنان.
لدى وفاة زوجها كانت جُوَانَّا تسكن معه شقَّةً في پاريس تتكدَّس فيها نحو 200 لوحة. وكانت تعلَّمَت منه مهنةَ تجارة الأَعمال الفنية، واكتسبَت ملامح من حذاقة التسويق. ساعدتْها براعتُها في العلاقات العامة فاتصلت بعد وفاته بأَعلام الوسَط الفني، كي تنفِّذ وصية زوجها وتنشُر اسم شقيقه وأَعماله، إِنما أَيضًا كي تضمَن ماديًّا مستقبل طفلها.
براعة التسويق
بين 1892 و1900 كانت جُوَانَّا شاركت بعرض أَعمالٍ من ڤِنْسِنْت في نحو 20 معرضًا جَماعيًّا، فيها أَعمال أُخرى من معاصريه: كلود مونيه، تولوز لوتريك، … فاشتهرت أَعمالُ ڤان غوخ وراحت تتنقَّل من معرض إِلى معرض. وفي يومية 29 أَيلول/سپتمبر1892، كتبَت جُوَانَّا: “منذ جئتُ من پاريس إِلى هولندا أَخذ الناس يهتمُّون بأَعمال ڤِنْسِنْت، والصحافة تكتب عنه باطِّراد”. وتبيَّنَ لاحقًا أَنَّ جُوَانَّا أَكثر مهارةً في التسويق إِلى أُوروپا الغربية من زوجِها وسلْفها الفنان. كانت تُعطي عمولةً بين 10 و15% لكل من يُسَوِّق أَعمال ڤِنْسِنْت في العالم. وفي نحو عشر سنوات من العمل الدؤُوب والتسويق البارع، تمكنَت جُوَانَّا من بسْط أَعمال ڤِنْسِنْت على أَوسع مدًى في أُوروپا.
بين أَبرز ما قامت به للتسويق: معرض ضخم سنة 1905 في “متحف سْتيديليك” (أَهم متحف في أَمستردام للفن الحديث، تأَسَّسَ في 14 أَيلول/سپتمبر 1895) جمعَت فيه 484 عملًا بين لوحات ورسوم، كان أَضخمَ معرض في تاريخ مسيرته الفنية. وهكذا حقَّقَت شهرةً لم يستطع أَن يحقِّقها زوجها وشقيقه الرسام انتشارًا وتسويقًا.
اليوم، وأَعمال ڤان غوخ تتصدَّر متاحف العالم والكتب الفنية والمواقع الإِلكترونية، يشاهدها الملايين إِنما قليلون منهم يعرفون أَن وراءَ هذه الشهرة العالمية امرأَةً تَرَسَّلَت لها، اسمُها جُوَانَّا ڤان غوخ، وَفَتْ بوصيَّة زوجها: جعلَت أَعمال ڤان غوخ قضيتَها فَرَفَعَت قضيتَه الفنية حتى بلَغَت لوحتُه “الدكتور غاشيه” (رسمها لطبيبه پول غاشيه سنة 1890) أَن تُباعَ بعد 100 سنة في مزاد 1990 بـ82 مليون دولار مسجِّلةً بذلك أَغلى لوحة تباع في تاريخ الفن التشكيلي العالمي.
كلام الصور:
- صورة نادرة: ڤان غوخ الفوتوغرافيا، ورسم ذاتيّ بريشته
- جُوَانَّا وابنُها ڤِنْسِنْت وبينهما آنَّا والدة الرسَّام وشقيقِه تِيُو (لاهاي 1903)
- سيرة ڤِنْسِنْت ڤان غوخ بحسَب يوميات جُوَانَّا
- ڤِنْسِنْت جونيور يحمل لوحة عمِّه ڤِنْسِنْت بريشته
- “الدكتور غاشـيه” بريشة ڤان غوخ: أَغلى لوحة في العالم