هنري زغيب
مع أَن ڤِنْسِنْت ڤان غوخ اليوم أَشهرُ اسمٍ على الإِطلاق بين تشكيليي القرن التاسع عشر، لم يَذُق في حياته الشخصية ولا المهَنية نكهة هذا النجاح الباهر. لم يكن في باله أَن يتفرَّغ الرسم موردَ رزق، ولا صمَّم على شق طريق الرسم. فهو ظلَّ حتى 1880 (في السابعة والعشرين من عمره)، يتنقّل في أَعمال عدة: مروِّج لوحات، تاجر أَعمال فنية، مُدرِّس، حتى قرر بعدها جميعها الانصرافَ كلِّيًّا إِلى الرسم.
نجم في “نِتْفْلِكْس”
يبدو أَن العام الحالي (2021) يضجُّ أَكثر من قبْل بأَعمال ڤان غوخ. ففي الولايات المتحدة وحدها هذا العام: خمسة معارض جوالة لأَعماله تتنقل بين 40 ولاية، يهرَع إِلى معارضه فيها جمهور مأْخوذ بلوحاته الرائعة ومقاطعَ من رسائل بخطه. يعيد المحللون ذلك إِلى أَحد أَمرَين: إِما لانتشار مسلسل “إِميلي في باريس” التلڤزيوني الشهير أَخذت تعرضه شبكة “نِتْفْلِكْس” وتظهر فيه لوحتا ڤان غوخ الشهيرتان “الليلة المقْمرة” و”مقهى الرصيف ليلًا”، وإِما أَن الناس اشتاقوا إِلى الخروج وزيارة المعارض بعد الحجْر طويلًا بسبب جائحة كورونا.
وبين رائعتَيه المتداوَلَتَين على شبكة “نِتْفْلِكْس” ومجموعة كبيرة من رسوم ذاتية وضعَها الرسام لوجهه (بينها أَكثر من واحدٍ له مضمَّد الأُذن بعد محاولتِه بَترَها)، يُذهل في أَعماله أُسلوبها المتفرد، ويُذهل أَكثر أَنه طيلة حياته، بالرغم من أَعماله الغزيرة جدًا، لم ينجح في أَن يَبيع إِلَّا لوحةً واحدةً وبعضَ الرسوم، وبمبالغ متقشِّفة جدًّا، فيما لوحته “فلَّاح يحرث حقله” بيعَت سنة 2017 بمبلغ 81 مليون دولار.
فكيف هذا الرسامُ الأَشهَر اليوم لم يستطع، طوال حياته القصيرة والمكثَّفة النتاج، أَن يلفت إِليه أَيَّ انتباه؟
مزاجُهُ الغريب
يرى مؤَرخوه أَنه كان غريبَ الأَطوار منذ كان يعمَل مسوِّق لوحات. ذلك أَنه “لم يكن يُحْسِن إِقناع الزبائن بالشراء. لذا فشِلَ في مهمَّته التجارية لدى مؤَسسة “غوپيل” للتسويق، فطرَدَه مدير المؤَسسة بسبب طبعه السيِّئ مع الزبائن”، كما أَجابت عن سؤَالٍ صحافيٍّ السيدةُ نادين غرانوف مديرةُ مؤَسسة “خُبَراء في ڤان غوخ” (اختصاصُها الأَبحاث في أَعمال ڤان غوخ ودراستُها). ولعلَّ هذا المزاج بالذات هو الذي أَحرق الجسُور كليًّا بينه وبين كثيرين من الزبائن لاحقًا حين بدأَ يرسم ويعرض لوحاته للبيع.
سبب آخر لعدم رواج لوحاته على حياته: لم يعِش طويلًا لتمتدَّ شهرته ويُقْبِلَ الزبائن على شراء لوحاته. فوفاته في ربيعه السابع والثلاثين (29 تموز/يوليو 1890 غداةَ إِطلاقه النار على صدره من مسدَّسه) بَتَرَت المدة التي، لو طالت، كان يمكن أَن يتعرف عليه خلالها زبائن آخرون.
هكذا انتهت حياته مجرَّحَةً بهزَّات داء الصرْع وفترات النوبات العصبية. وفي إِحدى صفحات دفاتره قبَيل وفاته (الدفاتر حاليًّا في متحف ڤان غوخ) ذكَرَ يائسًا أَنه لم يكن واثقًا من مستقبله، بل كان يشعر عميقًا بمرارة الفشل في حياته رجُلًا ورسامًا. وكان أَحيانًا يقايض بعض رسومه بوجبات طعام أَو موادَّ للرسم (قماش أَو أَلوان). مع أَنه في الأَشهر الأَخيرة من حياته بدأَ يستقطب اهتمام بعض المعنيين، و”أَخذت لوحاتُه تشق طريقها إِلى جمهور بدأَ يكتشفُها في پاريس وبروكسيل”، كما يذكر هانْس لُوجْتِن رئيس فريق الباحثين حاليًّا في متحف ڤان غوخ.
… وكانت جُوانَّا
تلك الـمَطالع البطيئة المتعثرة مختلفةٌ تمامًا عن الشهرة الحالية الخالدة التي يتمتَّع بها ڤان غوخ في كل العالم، ويهتَمُّ لها الجمهور ويحتفي بها المعنيون كأَنها تصدر في هذه الأَيام لرسام عبقري حيٍّ بينهم.
فما يكون السر؟
يكون أَنَّ وراء السرّ امرأَةً وفيَّة.
امرأَة اسمها جُوَانَّا.
بعد ستة أَشهر على وفاة ڤِنْسِنْت (ڤان غوخ) تُوفي شقيقُه الأَصغر تِيُو (تيودورُس 1 أَيار/مايو 1857 – 25 كانون الثاني/يناير 1891) إِثر تعقيدات صحية سببُها مرضُ السفلس. كانت تلك مأْساة فاجعة لأَن تِيُو كان يركِّز كل جهده على نشْر أَعمال شقيقه البكْر الراحل.
لكن الرسام الغائب، إِن هو خسِر كثيرًا بغياب شقيقِه بعدَه، كان له حظٌّ باسِمٌ بحضور إِنسانةٍ كانت هي الركيزة التي قامت عليها شهرة ڤان غوخ بعد رحيله، وما زالت مستمرَّة حتى اليوم بفضل تلك المرأَة: جُوَانَّا بُونْغِر ڤان غوخ (ولدَت سنة 1862) أَرملة شقيقه تِيُو.
وكانت جوَانَّا، منذ 1889، أَي قبل وفاة ڤان غوخ بحفْنة أَشهر، أَصبحت جزءًا من العائلة بزواجها من تِيُو. وكانت قبلذاك مُدَرِّسة لغة إِنكليزية في مدرستيَن للبنات.
رعاية أَعمال سِلْفِها
حين توُفي زوجُها تِيُو، كان لها منه طفلٌ ومجموعة ضخمة جدًّا من اللوحات والرسوم. ولأَنها كانت تعرف هَوَس زوجها تِيُو بنشْر فنّ شقيقِه البكْر ڤِنْسِنْت، مؤْمنًا بأَن هذا الأَخير ذو مستقبل باهر في عالم الرسم لفرادة أَعماله أَسلوبًا ومواضيع. وكان تِيُو خبيرًا بتسويق اللوحات لعمَله طويلًا مسوِّقَ لوحات لدى مؤَسسات تعنى بتجارة الأَعمال الفنية.
وفاءً لزوجها قرَّرت جُوَانَّا أَن تتكرَّس لاثنين: طفلها (واسمُه ڤِنْسِنْت جونيور تَيمُّنًا بعمِّه الرسام لتعلَّق تِيُو به)، وتنفيذ رغبة زوجها بنشْر أَعمال شقيقه ڤِنْسِنْت. وهكذا فعلَت. ويذكُر هانس لوجْتِن، في سيرته المفصَّلة عنها، أَنها منذ 1890 حتى وفاتها (سنة 1925 عن 63 عامًا) تكرَّست لتجميع رسائل سِلْفها ڤِنْسِنْت وتنسيق لوحاته التي كانت تحبُّها كثيرًا.
ماذا فعلت تلك المرأَة؟ وكيف باتت هي وراء شهرة ڤان غوخ؟
الجواب في الجزء الثاني من هذا المقال (الثلثاء المقبل – “النهار العربي”).
كلام الصُوَر:
- جُوانَّا فان غوخ غداة زواجها من تِيُو (الصورة الرئيسة)
- جُوانَّا وطفلُها بعد وفاة زوجها تِيُو
2 . تِيُو بريشة شقيقه ڤِنْسِنْت
- “فلَّاح يحرث حقله” بيعت بـ81 مليون دولار وصاحبُها مات فقيرًا
- ضريح الشَقيقَين: متلازمان في الحياة والموت