… ويكون أَن لا بدَّ من بيروت، وحب بيروت، والوفاء لبيروت.
بعد تسعة مجلَّدات كبرى أَصدرتْها حديثًا “مؤَسسة نوفل” أَعمالًا كاملةً لصديق بيروت الخالد نزار قباني، ها أَصدرَت أَخيرًا سبعة كتب أَنطولوجيّة أُخرى فيها مقتطفاتٌ من قصائده مبوَّبة على سبعة مواضيع. الأَول: “هي في قصائده” مع مقدمة من ماجدة الرومي، الثاني “القصائد النارية” قدَّمت له جمانة حداد، الثالث “سمفونيات نزارية” قدَّم له كاظم الساهر، الرابع “لا شيْءَ إِلَّا العشق” مع مقدمة من أَحلام مستغانمي، الخامس “عاشق الكلمات” قدَّمت له بْرُوِين حبيب، السادس “نار الثورة” قدَّم له هشام الجَخ، والكتاب السابع الصادر أَخيرًا “بلاد الشعر” (للمدن والبلدان التي كتب عنها نزار) أَسعدَني أَن تطلبَ مني ابنتُه زينب كتابةَ مقدمته.
وكانت فعلًا سعادةً لي أَن أَعودَ إِلى نزار، الصديق الجميل الذي كانت لي معه لقاءَاتٌ وذكريات، وأَسترجعَ سنابل من قصائده في المدن. فهو لم يترك مدينةً زارَها تعتَب عليه، ولا بلادًا عاش فيها أَو سكَن إِلَّا منحَها من شعره فلذاتِ جماليا ونوستالجيا.
بدءًا بمدينته الأُمّ دمشق، وقلَّما يَذكر دمشق إِلَّا طالعةً من عينَي والدته أُمِّ المعتز، أَو من ذكريات طفولته فيها. ولم تغِبْ عنه دمشق حتى وهو يَجول بين المدن الأُخرى، لكأَن دمشق عطرٌ عبيقٌ يحمله إِلى كل أَين وكلِّ متى.
ويَزور تونس فيُشعل فيها، مُتعَبًا بعروبته، حرائق على مآل العرَب والعروبة، ويُسقِط غضبه على من شوَّهوها لغير سبب.
وتكون له في بغداد أَكثرُ من وقْفة في مواسم مربدها، وله فيها صداقاتٌ وأَحباب، وله فيها – خاصة له فيها – بلقيس، عروسُ شعره وعروسُ حياته، وحضورٌ رائعٌ عطَّر أَيامه بالفرح قبل سقوط الفاجعة وغياب بلقيس.
وله في القدس، المدينة التي “تفوح أَنبياء”، أَكثرُ من قصيدة سخط فيها على مَن أَسلَموا مفاتيح المدينة، ومَن سلَّموها، ومَن استسلموا للواقع الـمُرّ، ويعلن تحيَّتَه العُليا للمقاومين الذي يُهدُون فلسطين دماءَهم ويَرحلون كي تَبقى فلسطين.
وفي إسپانيا تلُوح له أَندلسُ الأَمس فيغنِّيها من مدريد وقُرطُبَة وإِشبيلية وغرناطة، ومن حناجر أَبي عبدالله الصغير وعُقبة بن نافع ونوَّار بنت عمار ابن الأَحنف… ولا يستريح.
سوى أَنه، بعد عناء الذكريات الأَندلسية، أَحسَّ بالتعب من الياقة واللياقة الدپلوماسيَّتَين، ومن الغربة في البعيد. لم يشأْ أَن يستسلم للتعَب خوفَ يُبعدُه عن الشعر، فطلَّق الدپلوماسية، وحزَم حقائبه، وهرعَ إِلى… بيروت.
كانت له بيروت مخدَّة وحِرامًا وحَنْوة حنان فاستقرَّ فيها، منْشئًا دار منشوراته، وضيفًا مُحَبَّبًا على مَن فيها وما فيها، فكان نجمَ سهراتها وقمرَ شعرائها. غنَّى بيروت “ست الدنيا” و”حقلَ اللُؤلؤ وميناءَ العشْق وطاووسَ الماء” واستنهضَها كي يبقى الله “يفتش في خارطة الجنَّة عن لبنان”، ويبقى البحر “يفتِّش في دفتره الأَزرق عن لبنان” ويعودَ القمر “كي يتزوَّج من لبنان”.
إِلى هذا الحدِّ عَنَت له بيروت بكل ما فيها ومَن فيها، حتى إِذا بدأَ الكابوس يجتاح المدينةَ قاضمًا جمالها الثَرَّ ويَهجرُ الحبُّ لبنان، صرخَ في ليلة حافية ” كلُّ ما يَطلبه لبنان منكم أَن تحبُّوهُ… تُحبُّوهُ قليلا”.
وحين لم يجِد من يُحبُّون لبنانَ قليلًا، حزَم حقائبَه من جديد، وغادر إِلى جنيڤ ثم إِلى لندن، ومضى يَكتُب يَكتُب يَكتُب حتى جفَّ الحبرُ في قلمه وقلبه، فاستسلمَ للغياب يَحملُه إِلى حُضورٍ شعريٍّ ساطعٍ لا إِلى غياب.
“بلادُ الشِعر”، بلادُه؟ وكيف لا تكونُها، هو الذي جعَل شعرًا كلَّ بلاد زَنْبَقَهَا في قصائده شِعره، حتى يَستحيلَ أَلَّا يكون نزار، في كل قصيدةٍ، وطنًا خالدًا في كوكب الشعر الخالد.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com