هنري زغيب
في الجزء الأَول من هذه الرُباعية نسجتُ قصة الصحافي اللبناني أَمين الغريّب وتَعَرُّفِه بجبران خلال عرس في بوسطن، ونبذةً عن الغريّب وما كان له مع جبران في ذاك اللقاء.
في هذا الجزء أَنقُل حرفيًا من نص الغريِّب ما كان في ذاك اللقاء.
بعدما قدَّم الغريِّب لمقاله الطويل في مجلته الشهرية (“الحارس”، السنة الثامنة، العدد الثامن، أَيار/مايو1931 – ص 689) بدمعة أَسى على غياب جبران في الشهر السابق (10 نيسان/أَپريل 1931)، يبدأُ بسرد تفاصيل ذاك اللقاء الأول.
وهنا ما كتبه حرفيًّا (ص 690):
“في مثل هذا الشهر (يقصد أَيار/مايو) من سنة 1905، أَي منذ ستة وعشرين عامًا (يقصد 1905-1931) زرتُ مدينة بوسطن صدفة واتفاقًا، فكان بين اللبنانيين والسوريين، الذين شرَّفونا باستقبالهم الترحيبي، شابٌّ في الثانية والعشرين من عمره (يقصد أَن جبران المولود سنة 1883 كان سنة 1905 في عامه الثاني والعشرين) يشتغل بالتصوير الرمزي. دعاني لزيارة محلِّه، ورؤْية ما هناك من رسومه. وكنت أَلحَظ في كلامه أَلفَ دليل على سعة الاطِّلاع، فرافقْتُه وكان همّي منه بغير الرسوم. وكالصحافي المتطلِّع في تلك الأَيام وفي تلك الديار إِلى أُدباء حقيقيين، سأَلتُه ما إِذا كان قد كتَب شيئًا يُطْلِعني عليه، فقام فورًا إِلى مخدع، وجاء منه ببضعة فصول صغيرة قرأَ لي بعضَها فعرفْتُ أَني أَمام أَديبٍ مستعدٍّ ليكون كاتبًا عبقريًّا”.
مَطالِعُهُ في “الـمُهاجر”
“من ذلك الحين اتَّخذ له “الـمُهاجر” منبرًا. وقد رأَى فيه أَول مقالة مطبوعة بِاسمه فيه في 17 أَيار/مايو 1905. وأَذكر أَني كتبتُ عنه يومئذ هذه العبارة: “من حُسْن حظِّ هذه الجريدة أَنها قادرة أَن تمثِّل للعالم العربي صورةً قَلَميةً من الشخص الذي أُعجبَتْ برسومِه الرمزيةِ أَعظمُ جرائد المدينة المعدودة في الولايات المتحدة “مدينة العلوم والفنون”. ذلك الشاب هو جبران خليل جبران من بْشَرّي لبنان. نَذكُر اسمه عاريًا من كل لقَب، ونوجِّه أَنظار القرّاء على صورة أَفكاره السامية التي نرسُمها في كل عدد من أَعداد هذه الجريدة تحت عنوان “دمعة وابتسامة”. إِننا لا نُلام في افتخارنا بشابٍّ لبنانيٍّ كثيرِ الآمال، على سبيل التنشيط والتشجيع. فماذا يكون شأْننا إِذ نردِّد فقط مفاخرةَ الأَميركيين بلبنانيٍّ لمحضِ أَنه يعيش بينهم؟
وهي ذي أَول مقالة نشرناها لجبران خليل جبران في باب “دمعة وابتسامة”، وكان عنوانها “رؤْيا”، هي أَول ما صرَّ به قلمه على جريدة مطبوعة (ويورد الغريّب مقال جبران “رؤْيا”، ولن أَستعيده هنا فهو المقال التاسع الموجود في كتابه “دمعة وابتسامة”، الذي صدرت طبعتُه الأُولى في نيويورك سنة 1914 عن “مطبعة الأَتلنتيك”، وتحت العنوان عبارة “مجموعة أَفكار وأَميال وعواطف”، وكانت كلمة “أَميال” فترتئذٍ تُستعمَل بمعنى “مُيُول”).
هكذا قدَّمه الغريّب إِلى القراء
يُكْمل الغريّب: “… وأَخذ جبران يَنشُر في كل عددٍ من جريدة “الـمُهاجر” فصلًا كهذا الفصل حتى 16 أَيلول/سپتمبر 1905، فشعرنا بواجبٍ يدفعنا إِلى رفْع الصوت في تبيان مزاياه الكتابية، استزادةً من انتباه الناس إِليه، فنَشرنا في عدد ذلك اليوم (16/9/1905) مقالًا افتتاحيًّا عنوانه “جبران خليل جبران” قلنا فيه:
“… منذ مدة قريبة ذهَب محرِّر هذه الجريدة إِلى بوسطن وضواحيها، وأَقام بصُحبة هذا الشاب عشرةَ أَيَّام كاملة، فعرفنا ما كنا نَوَدُّ لو عرفه قراء “الـمُهاجر” ليَعْلموا على الأَقل لماذا نكتُب فيه. نحن نؤَكِّد أَن هذا الشابّ اللبناني هو وحده – بين الأُلوف التي تَقرأُ اسمه ما بين تضاعيف الثناء والإِطراء – هو وحده يَقرأُ هذا الكلام عن نفسه كأَنه يقرأُ خبرًا من أَخبار الحرب، أَو مقالًا في السياسة، أَو حادثةً محليةً لا علاقةَ لها به على الإِطلاق. هو شابٌّ بلغَ منه التسامي بالروح إِلى حدِّ أَنه صار يُحب في الدنيا كلَّ شيْءٍ من أَجل الروح التي تُصْدِره. يَنظر إِلى الأَشياء كلِّها من وجهها الحسَن، ويعيش قانعًا بما يَرى، منتظرًا الكمالَ لنقائص هذا الكون بطمأْنينة وأَمل.
جبران هو أَول كاتب عربي رأَيناه يرسم كل أَميال نفسه وكل أَخلاقه في كتاباته بأَمانة. تصوَّر نفسك أَيها القارئ، وأَنت تقرأُ “دمعاته وابتساماته”، كيف تَندفع مع الكلمات من البداية إِلى النهاية مأْخوذًا بسهولتها وانسجامها، ومنتقِّلًا بسمُوِّ معانيها إِلى عالم أَسمى. واعلمْ أَنك بالحقيقة ترى أَخلاق هذا الشاب وطباعَه وأَميالَه متمثِّلةً أَمامك بأَوضح مظاهرها وأَصدق مَجاليها.
منذ أَربعة أَشهر ابتدأَ هذا الشابُّ يَنشُر في “الـمُهاجر” هذه الفصول، والناس يقرأُونها بشيء من الحيرة. وكما تقَع قطرات الندى على أَرض مزروعة في أَواسط الصيف، هكذا وقَعَت “دمعات” جبران “وابتسامته” على أَفكار العرب في الربيع المنصرم. فاجأَهم بها على نسَق جديد مبتكَر مفاجأَةً رائعة، فلبِثُوا مدَّة يطالعونها مبهوتين لعدم اعتيادهم مثلَها في اللغة العربية.
الغريّب يتوقَّع شهرة جبران
وسوف يأْتي يومٌ وهو قريب، فلا تبقى جريدة “الـمُهاجر” وحدها تَرفع إِلى أَوْج العُلى كاتبًا يستحقُّ هذه الرفعة، ويصير جبران خليل جبران في كل عالم الأَدب بمقام التاجر الحقيقي في عالم التجارة.
نحن في هذا الكلام نعبِّر عن أَفكار كلّ من ذاقوا لذَّة تصوُّراته، ومتَّعوا نفوسهم اللطيفة برقَّة معانيه. ولا نريد أَن نضنَّ عليه في حياته بجزءٍ على الأَقل مما سيقال فيه بعد عمر طويل. وبينما هو ينظر إِلى الحياة من خلال “دمعة وابتسامة”، نحن بالنيابة عن كل قارئٍ عربيٍّ نَسكب على أَزهار دوحته قطرات الثَناء تنشيطًا وتأْييدًا، وبالنيابة عن كلِّ كاتب عربي في أَميركا نكشف له الرأْس تحيةً واحترامًا”.
وبعدما توقَّع الغريّب شهرة جبران التي تحقَّقت فعلًا كما كان حَدَس له سنة 1905، يعود إِلى الحسرة على غيابه فيكتُب: “… وها أَن الستة والعشرين عامًا – التي سمح الله لجبران أَن يستمرَّ كاتبًا بعد تلك الدفعة التي اختارتْني العنايةُ لدفْعه بها إِلى الأَمام – قد أَيَّدَت جيِّدًا صدْق فراستي فيه. وما يَذرفُ اليومَ كلُّ أَديب عربي من الدموع الممزوجة بالاغتباط – لـمحض أَنه قد وُجِد بيننا وزاد في أَمجاد تاريخنا الأَدبي – يردُّ إِلى “دمعاته وابتساماته” الأُولى الصَدر إِلى العجُز كالشاعر الـمُجيد”.
المقال الثالث: المراسلة بين الغريّب وجبران
كلام الصور
- جبران في الثانية والعشرين، فترةَ الْتقاه الغريّب
- “الموسيقى” أَول كتاب لجبران نشرَه الغريّب (1905)
- “الأَرواح المتمردة” لجبران نشَرَه الغريّب “على نفقته” (1908)
- “دمعة وابتسامة” مجموعة مقالات جبران في “الـمُهاجر”