هنري زغيب
بعضُ المدن اسمٌ على خارطة، وبعضها ضوءٌ على الخارطة. والضوءُ يشعُّ حين تستقطبُ المدينةُ أَقلامَ كُتَّابٍ وريشاتِ رسامين وإِبداعات أُخرى تجعلُها في ذاكرة المستقبل.
هي هذه حال بلدة إِتْرُتَا Etretat في منطقة النورماندي الفرنسية (نحو 1250 نسمة، على 4 كيلومترات مربَّعة).
مرآتُها بالريشة والقَلَم
في 3/11/1877 كتب الروائي غي دو موپاسان (1850-1893) إِلى صديقه الروائي غوستاڤ فلوبير (1821-1880) رسالةً شرح له فيها انطباعه عن تلك البلدة الهانئة جاء فيها: “ما إِن نقترب حتى نرى مسلَّةً غارزةً في البحر، فإِذا بلغناها نمر تحت قنطرة في الماء الضئيل العمق نُجانب فيها الصخور بحذَر”.
بعد ست سنوات، أَصدر موپاسان روايته الأُولى “سيرة حياة” (1883) جاء فيها: “وفي البعيد رأَت جانّ (بطلة الرواية) صخرةً كبيرةً غريبةَ الشكل كما فيلٌ ضخمٌ يَغرز خرطومه في البحر. كانت تلك الصخرة بوابة الدخول إِلى إِتْرُتَا”.
سنة 1909 أَصدر موريس لوبلان (1864-1941) روايته “المسَلَّة المثقوبة” (الثالثة في سلسلة رواياته الپوليسية التي بَطلُها أَرسين لوپين) وجعل معظمَ أَحداثها في بلدة إِتْرُتَا.
ودخلَت هذه البلدة في تاريخ السينما (أَفلام كثيرة مصوَّرة في رحابها وعلى شاطئها الجميل)، وفي برامج التلڤزيون (تصوير بعض حلقات أَرسين لوپين)، وفي أَعمال الموسيقى الكلاسيكية والأُوپرا (سكَن فيها مؤَلِّفون موسيقيون، وكتبوا مؤَلفاتهم فيها).
في العالم التشكيليّ لفتَت معالمُ هذه البلدة الصغيرة الهانئة عددًا من كبار الرسامين مرُّوا بها أَو سكنوها فترةً، فخلَّدُوها في لوحاتهم: غوستاڤ كوربيه (1869)، أُوجين دولاكرْوَى (1863)، هنري ماتيس (1920) وسواهم كثيرون. غير أَن كلود مونيه (1840-1926) تميَّز عنهم بأَنه أَمضى فيها وقتًا أَطْوَل ورسم فيها مجموعةَ لوحات.
مونيه: ثلاث زيارات
زار مونيه منطقة النورماندي ثلاث مرات (1883 و1885 و1886). ومنذ زيارته الأُولى (شباط/فبراير 1883) أَخذَه منظر الفُلْك الذي تُكوِّنه صخرة طبشورية بيضاء هائلة على شكل فيلٍ غارزٍ خرطومَه الضخم في الماء عند الجُرف الرابض على شاطئ إِتْرُتَا، مُشَكِّلةً تجويفةَ قنطرةٍ عالية شبيهة بصخرة “الروشة” في بيروت.
يصف الروائي غي دوماپاسان سنة 1886 دهشة صديقه مونيه أَمام هذا المشهد: “راح كلود يمشي على رمل الشاطئ، وراءَه أَولاد يحملون له ست قماشات رسم عليها المشهد ذاته في أَوقاتٍ متعاقبةٍ من النهار، ذاتِ خيالات مختلفة وَفْق وُجهة الشمس. عند وصوله أَخذ اللوحات، صفَّها متجانبةً وفق انعكاس النور والظلال فيها، وأَخذ يتأَمَّلُها وينقِّح فيها. فهو رسم مشهد الفلْك ست مرات، اثنتين إِبان كل واحدة من زياراته الثلاث، ثم كان يأْخذها إِلى محترفه كي يضع عليها لمساته الأَخيرة”.
منذ زيارته الأُولى راح يرسم بنهَم الخائف على زوال المناظر التي شدَّته من تلك البلدة: مراكب الصيادين وزوايا أُخرى بلغَت عشرين لوحة للبحر والشاطئ، وثلاث لوحات للصخور في ثلاثة مواقع متجاورة في البلدة: بوابة آڤال، بوابة آمون، و”الباب العالي” (Manneporte). وهذا الأَخير استأْثر بأَكثر من لوحة لكثرة ما كان انعكاس الشمس عليه يبُثُّ أَلوانًا مختلفة بين فينة وأُخرى من النهار. فالعلوُّ فيه يبلغ نحو 85 مترًا، والصخر الخرطومي الغارز في البحر علوُّهُ نحو 50 مترًا بعرض 40 مترًا، والقنطرة التي تشكِّلها الصخرة يبلغ عرضها نحو 19 مترًا. هذا المنظر البحري ظل غافيًا في قرية صيادين هادئة حتى ذاعت شهرتُها في القرن التاسع عشر مَوقعًا سياحيًّا بحريًّا زاد من شهرته التقاءُ أُدباء ورسامين فيه، ساكنين أَو زوَّارًا، كتَبوا ورسموا فخلَّدوا جماله.
ولادة الانطباعية
هذا الجمال المهيب عوَّض عن حزن الفنان الفرنسي الذي كان في التاسعة والثلاثين حين ترمَّل (توفيَت زوجته كميليا سنة 1879) ووقَع سنواتٍ في صدمات نفسية وضائقة مالية، فراح يدور على مواقع عدة في فرنسا باحثًا عن واحة تطلق ريشتَه في مواضيع تدرُّ عليه بعض المدخول، في مسار تشكيليّ إِبداعي سُمّي بفضله “تيار الانطباعية”. ذاك الموقع المرتجى وَجَدَهُ سنة 1883 في بلدة إِتْرُتَا. ومذذاك جعل يطوِّر ذاك التيار الذي آل به لاحقًا إِلى رسم عدد كبير من اللوحات في موضوع واحد: “النيلوفر” (أَو “زنابق الماء”) عوَّضَت له عن ضائقته المالية فانتشرَت نيلوفراته، وأَمَّنَت له مدخولًا لائقًا حتى آخر حياته، مع أَنه رسم حدائق مفرحة لم يتقبَّلْها الجمهور في البدء، لكنه راح يتقبَّلها تباعًا حتى راجت ورسَّخَت تيار الانطباعية.
معرض سياتل: الريشةُ الخالدة
تلك الروائع جميعُها تشكِّل حاليًّا معرضًا كبيرًا لدى “متحف الفنون” في سياتِل (كبرى مُدُن ولاية واشنطن – غربيَّ الولايات المتحدة) منذ الأَول من تموز/يوليو الجاري حتى 17 تشرين الأَول/أُكتوبر المقبل، في ظاهرة سنوية تُقيمها الولايات المتحدة في مدينةٍ أَو عاصمةٍ من ولاياتها لهذا الفنان الفرنسي الخالد.
معرض سياتل الحاليّ مخصَّص لموضوع واحد: “مونيه في إِتْرُتَا”، يُظهر سرعة مونيه في رسم لوحته، كما كشفَت رسائله إِلى صديقته أَليس هوشِيدِيْه (زوجته الثانية لاحقًا) كيف كان يحمل قماشاته في يد، وفي الأُخرى الـمَلْوَنَ وأَنابيبَ الأَلوان، ويهرع يوميًّا كي يستلحق تغيُّرَ النور والظل مع تقدُّم حركة الشمس بين الصبح والظهر والغروب.
هكذا، كما بدأْتُ هذا المقال: بعضُ المدن اسمٌ على خارطة، وبعضها ضوءٌ على الخارطة. وهي ذي بلدة إِتْرُتَا تَشعُّ على خارطة السياحة في فرنسا، بفضل نصوصِ مَن عرفوها وريشاتِ مَن سكنوها، فاندهشوا بجمالها ورسموها حيَّة تتنقَّل عبر العالم في لوحات خالدة تتقدَّمها أَعمالٌ رسمها فيها عبقريُّ الانطباعيةِ الفرنسيُّ الخالدُ كلود مونيه.
كلام الصُوَر
- كلود مونيه (بريشته) ولوحتُه “الروشة” الفرنسية (1886)
- “الباب العالي” على الطبيعة…
- … و”الباب العالي” بريشة مونيه
- مونيه: “الباب العالي” من بعيد
- مونيه: “مراكبُ الصيَّادين” في إِتْرُتَا