… بلى: ما زال يُولَدُ كلَّ يوم!
تُراهُ – وهو المؤْمن بالتقمُّص والولادات المتعاقبة من جيلٍ حاليٍّ إِلى جيلٍ جديد، حين قال في ختام “النبي”: “بُرهةً بعدُ، هنيهةَ راحةٍ في قلْب الريح، وتَحبَلُ بيَ امرأَةٌ جديدة” – هل كان يقصد فقط حَبَلًا جديدًا لجسد جديد إِلى حياة جديدة؟ أَلَم يكُن يُضْمِر أَيضًا أَنَّ كلمته التي “جاء ليقولَها” ستكون لها أَيضًا ولاداتٌ جديدةٌ مع كل طبعةٍ من كتبه جديدةٍ، مع كل كتابٍ عنه أَو بحثٍ عنه جديد؟ مع كل ترجمةٍ لأَحد كتُبه جديدةٍ؟
إِخالُه، وهو يُغمض عينيه للمرة الأَخيرة على ذاك السرير الأَبيض، تلكَ الليلةَ الفاصلةَ عند العاشرة إِلَّا خمس دقائق من ليل الجمعة 10 نيسان 1931 في مستشفى سانت ڤِنْسِنْت – نيويورك، كان يعرف أَنَّ عينَين له جديدتَين ستُشْرقان كلَّ يوم على فجر كل صفحة جديدة منه أَو له أَو عنه في أَيِّ لغةٍ جديدة من لغات العالَم.
وها نحن اليوم أَمام “ولادة جديدة”.. وفي إِيطاليا هذه المرة.. وإِذ لا يستأْثر “النبي” وحدَه بالترجمات العالَمية (بات اليوم مترجَمًا إِلى 111 لغة من كلِّ الدنيا) صدرَت هذا الأُسبوع بالإِيطاليَّة ترجمةُ “الموسيقى” أَول كتاب له مطبوع بالعربية سنة 1905.
الكتابُ أَنيقٌ صغيرٌ بحجم كِتَاب الجَيب (12×17سنتم) صدر عن منشورات “ميزوجيا” في ميسِّينا (مدينة مرفَإِيَّة سياحية جميلة هي ثالثُ أَكبر مدينة في جزيرة صقلية، والمدينةُ الكبرى الثالثة عشرة في إِيطاليا). سوى أَن صِغَر الكتاب حجمًا تضافرَ له كِبَرٌ في الجهد صُدُورًا لائقًا بجبران.. فالذي ترجمه إِلى الإِيطالية خبيرٌ جبراني معمِّق: الباحثُ فرنشيسكو ميديتْشي، مترجمُ الكثير من كتُب جبران وواضعُ الكثير من الدراسات والمقالات عنه وعن أُدباء المهجر، بل مكتشفُ الكثير من الوثائق بما يفاجئُ لأَهميتها إِذ كانت غير منشورةٍ بَعد، فـ”نبَشَها” من مصادرها الأَصلية ونَشَرها وأَطْلَقها في المؤْتمرات الدولية التي يُشاركُ فيها مُحاضرًا. وإِلى جبران، ترجم إِلى الإِيطالية “كتاب خالد” لأَمين الريحاني عن الدار ذاتها (“ميزوجيا”).
وزيادةً في الحرص الجبراني، كي تَصدُرَ الترجمةُ أَمينةً جدًّا للأَصل العربي، راجَعَت الترجمةَ تدقيقًا ضيِّقًا (استنادًا إِلى النص العربي) الاختصاصيةُ المعَمِّقة في علْم الترجمة الدكتورة مايا طوني الحاج (رئيسة قسم اللغة الإِنكليزية والترجمة لدى جامعة سيِّدة اللويزة، ولها أَبحاثٌ ومحاضراتٌ في الترجمة وعلُومها)، والاختصاصيةُ في اللغة الإِيطالية الباحثة والشاعرة نادين نجم.
نحن إِذًا حيال كتاب صغير وجهْد كبير. فعدا توطئة الكتاب للدكتور پاولو بْرانْكا (من جامعة القلب الأَقدس في ميلانو) وفيها أَنَّ جبران في كُتيِّبه هذا “كرَّمَ الموسيقى الملْهِمةَ والأَقربَ إِلى النفْس البشرية”، وضَع فرنشسيسكو ميديتشي مقدمة مطوَّلَة لترجمته، عرَّبتها مايا الحاج ونادين نجم، جال فيها على تاريخ الكتاب، منذ أَيار 1904 في بوسطن يومَ الشابُّ جبران التقى الصحافيَّ اللبنانيَّ أَمين الغريِّب الذي آمَنَ حدسيًّا بعبقرية جبران المبكِّرة ففتحَ لمقالاته الأُسبوعية الصفحةَ الأُولى من جريدته “الـمُهاجر” في نيويورك، وصدَّر أَوَّل مقال لجبران بمقدمة جاء فيها: “يَسُرُّنا جدًّا أَن نقدِّم إِلى العالم العربي باكورةَ الكتابات الأَدبية للفنان اللبناني الشاب الذي حظيَتْ رسومُه بإِعجاب الجمهور الأَميركي. إِن اسمه: جبران خليل جبران، هو الآتي من بْشرِّي مدينة الشُجعان الشهيرة.. ننشُر كتاباته هنا من دون إِضافة أَيِّ تعليق من قبَلِنا (…)”.
مبروك لجبران، في غيابِهِ الأَسطَع من حضور، هذا الأَثَرُ الجبراني الجديد في لغة دانته، وهنيئةٌ له هذه “الولادة الجديدة”.
هكذا تتَّضح أَيضًا وأَيضًا صحةُ ما به بدأْتُ مقالي أَنْ: “بلى، ما زالَ جبران يُولَدُ كلَّ يوم”.
هنري زغيب