هنري زغيب
بعد غدٍ (الخميس) 30 أَيلول/سپتمبر: الذكرى 230 لإِطلاق أُوپرا موزار “الناي الطَروب” (30 أَيلول/سپتمبر 1791) في ڤيينا. وهي آخر عمل على حياة موزار قبل أَن يشتدَّ عليه الوهْنُ ويموتَ بعدها بتسعة أَسابيع (5 كانون الأَول/ديسمبر 1791) عن 35 عامًا.
ظروفُ التكليف والتأْليف
كان ذلك حين جاءَه في آذار/مارس صديقُه الممثل إِيمانويل شيكانيدر (1751-1812) بنصٍّ من كتابته عنوانُه “الناي الطَروب” (يترجمه البعض “الناي السحري”). وكان موزار فترتذاك يعاني من مشكلتين: صحية (جسده النحيل بدأَ يخونه)، ومادية (كثرَت عليه الديون لأَن أَعماله لم تعُد تُعزَف في ڤيينا كما من قبل، ولأَن عمله الأُوپرالي السابق “هكذا هُنَّ النساء” (كانون الثاني/يناير1790) لم يحقِّق النجاح المتوقَّع.
زاد من قهره أَن الأَمبراطور ليوپولد الثاني (1747-1792) الذي حكم النمسا سنتَين (1790-1792) لم يكن يُحبُّ موزار فلم يكن له أَيُّ حظٍّ بأَيِّ تكليف لتأْليف موسيقى عمل جديد. ولورِنْزو دا پونتي الْكان يكتب النصوص لموسيقى موزار غادر ڤيينا نهائيًّا إِلى لندن. لذا أَشْرَق موزار بالفرح حين جاءَه صديقه إِيمانويل شيكانيدر حاملًا إِليه نص “الناي الطَروب” بالأَلمانية من فصلَين طالبًا منه وضع موسيقاه. اختلى موزار في خيمة إِيمانويل الخشبية وكتب معظم التأْليف الموسيقي، وأَنجزه بأَقلَّ من ستة أَشهر، ومعروفٌ عنه أَنه سريعُ التأْليف. وفي أَثناء عمله هذا تلقَّى طلبَين عاجلين: مقطوعة جنائزية، وأُوپرا “غفران تيتوس” عليه إِنجازها في ثلاثة أَسابيع لعزفها في الاحتفال بتتويج ليوپولد الثاني على عرش مملكة بوهيمْيَا التشيكية ما اضطُرَّه للسفر إِلى هناك. وما سوى عند عودته من پراغ (في أَواخر أَيلول/سپتمبر) حتى أَنجز كتابة الصفحات الأَخيرة من أُوپرا “الناي الطَروب”، مضيفًا إِليها ثلاثَ مقطوعات جديدة: مسيرة الكهَنة، كورس الكهَنة، ومقطوعة جديدة وضعًها خصيصًا لشخصية پاپاجينو التي سيؤَدِّيها صديقُه الكاتب إيمانويل شيكانيدر. وكتب افتتاحية العمل قبل ليلة واحدة من الافتتاح، على عادته في سائر أَعماله: أَن يظلَّ يكتب في عمله حتى الساعات الأَخيرة قبل تقديمه.
قلقُ العرض الأَول
مساءَ الجمعة 30 أَيلول/سپتمبر 1791 كان موزار خائفًا من فشَل أُوپراهُ الجديدة كما فشلَت سابقتُها قبل أَشهُر. وفي قاعة مسرح شعبي وسْط أَحد شوارع ڤيينا يقدِّمُ فيها إِيمانويل شيكانيدر أَعمالًا مسرحية منذ 1789، وقف موزار، بقلقٍ وتهيُّبٍ، يقود الموسيقيين في عمله الجديد، عازفًا (لِلَيلة الافتتاح فقط) على آلته المحبَّبة الكلاڤسان (آلة سبَقت البيانو، قيثارية الشكل، ذات صفَّين من المكابس، كانت الصيغة الأُولى للپيانو قبل ظهور شكله النهائي المعروف) أَمام نحو 1000 شخص ليسوا من روَّاد مسرحيات البلاط الملكي ولا قصور الملوك، بل جمهورٌ شعبي من الأَحياء المجاورة معتادٌ أَن يشاهد أَعمالًا كوميدية أَو ساخرة خفيفة، تبْهره فيها المؤثراتُ الخاصةُ الصوتية والبصرية.
مرَّ الفصل الأَول وكاد موزار ينهار: لا الجمهور صفَّق له، ولا تَفاعل مع موسيقاه. هرول إِلى الكواليس يكاد يبكي قهرًا وخيبةً، ليلاقي مكسورًا صديقه الكاتب/الممثل إِيمانويل شيكانيدر الذي قوَّاه وقال له أَن ينتظر نهاية الفصل الثاني حتى يقطف النجاح. وبالفعل: ما إِن انتهى الفصل الثاني مُعلنًا نهايةَ الأُوپرا حتى هبَّ الجمهور وقوفًا يصفِّقُ لدقائقَ طويلة طويلة، مُـحَــيِّــيًا عبقريةَ المؤَلف الموسيقيّ المبدع. ونجحَت الأُوپرا وتناقل الناسُ انطباع جمالها، وتقاطَر الجمهور ليلةً بعد ليلةٍ 24 عرضًا طوال تشرين الأَول/أُكتوبر في صالة مكتظَّة ليليًّا بالحضور. وتتالت العروض، وكان موزار يأْتي كل ليلة إِلى المسرح، يجلس في زاوية نائية يتابع نجاحَ عمله وتفاعُلَ الناس معه، وظل يأْتي كلَّ ليلة حتى الأَيام الأَخيرة قبل وفاته بعد أَسابيع قليلة.
مزاح موزار
ذات ليلةٍ أَحبَّ أَن يمازح صديقه الكاتب/الممثل إِيمانويل، وكان يُجسِّد شخصية پاپاجينو، فانسلَّ موزار بين الموسيقيين إِلى الكاريُّون (آلة ذات مكابس، عند العزف عليها تعطي أَصوات أَجراس تُدنْدِن) يُفترَض أَنَّ پاپاجينو ينقر عليها كي يسمع الأَجراس، فتعمَّد موزار أَن يظلَّ ينقر عليها بعدما توقَّف پاپاجينو عن التظاهُر بالنقْر عليها. عندئذٍ “فهِمَ الجمهور أَنْ ليس هو مَن ينقُر عليها بل شخصٌ آخر” (من يوميات موزار في 9 تشرين الأَول/أُكتوبر 1791).
كان موزار يعتبر “الناي الطَروب” أُوپرا كبرى. لكنها، من حيث الهيكلية الموسيقية، أُوپرا شعبية بالأَلمانية موضوعة لمسرح شعبي ذي جمهور شعبي. فليس فيها مشاهد سَرد حِكائيّ بل حوارات متواصلة، وليس فيها عزف متصل بل متفرِّقات بين مقاطع للكورس وأُخرى لغناء منفرد أَو ثنائي، ومدتُها (ساعتان و45 دقيقة في فصلين فقط) أَقصرُ من سائر أَعماله الأُوپرالية تتجاوز جميعها ثلاث ساعات في أَكثر من فصلين . ومؤَدُّو “الناي الطَروب” ممثلون وممثلات عاديُّون يغنُّون إِنما غير محترفي الغناء الأُوپرالي. انصاع موزار لوضعها هكذا كي لا يخسر العملَ ومردودَه، هو الغارق في الديون. لكنه تأَنَّى موسيقيًّا ولحنيًّا في دور “ملكة الليل” خصيصًا لأَن الدَور قامت به مغنيةُ عصرها جوزيفا ويبر (1758-1819) حبيبةُ موزار السرِّية قبل أَن يتزوَّجَ شقيقتَها الصغرى كليمانس.
ومهما يكن من أَمر التكليف والتأْليف والتنفيذ “بما تيسَّر”، تبقى أُوپرا “الناي الطَروب” أَكثر أَعمال موزار شاعريةً، رائعةَ العذوبة الموسيقية، ساحرةَ الأَجواء المسرحية، كأَنها وصية موزار الأَخيرة في عمل خالد (صدرت له نسخٌ في لُغات عدة، أُولاها بعد عشر سنوات من وفاة مؤَلفها: العرض الفرنسي الأَول بعنوان “أَسرار إِيزيس” على مسرح “أُوپرا باريس” في 20 آب 1801).
وها “الناي الطَروب” اليوم بين أَروع أَعمال موزار في عصره، فيها الفرح وفيها السعادة وفيها الحنان، تتوجَّه إِلى جمهور من جميع الفئات العمْرية، غنَّى فيها موزار بكل شاعريةٍ عاطفةَ الأُخُوَّة بعدما غنَّى الحريةَ في “الخطف من السراي” (1782)، والمساواةَ في “عرس الحلَّاق” (1786).
ولذا هي خالدةٌ حتى اليوم، ومن أَكثر أَعمال موزار عزفًا، وفي لغاتٍ عدة، وعلى أَكبر المسارح في العالم، وتُبقي مؤَلِّفَها ساطعَ الحضور، هانئًا في نجاحه غائبًا أَكثر مما كان على حياته. وهذا قدَرُ أَعمال العباقرة الخالدين.
كلام الصور
- وُصُول “ملكة الليل” في “الناي الطَروب” (الصورة الرئيسة)
- ديكور الأُوپرا في طابع مصري (تجسيد أَبو الهول)
- طابع تذكاري في الذكرى 200 لـ”الناي الطَروب”
- كاتبُ النص إِيمانويل شيكانيدر في دور پاپاجينو الصيَّاد
- صفحة بخط موزار من نوطات “الناي الطَروب” وتوزيعها على الآلات