هنري زغيب
قبل شهرين (“النهار العربي” – 18 كانون الثاني/يناير 2022) كتبْتُ مقال “إِزميله مقصّ، ومنحوتاته من ورق”، كشفْتُ فيه عن الفنان الموهوب الإِنكليزي الشاب ريتشارد سْوِيْني (38 سنة) وإِبداعه في “نحت الورق”، مطرِّزًا منه أَشكالًا دَرَجْنا على رُؤْيتها في الرخام أَو الحجر. وهي ذي اليوم فنانة إِنكليزية أَيضًا: ليزا لُوْيْدْ اعتمدَت الورق كذلك مادةً لـ”نحت” العصافير التي تشكِّلُها في حالات غزَل أَو غضَب أَو طيران.
هكذا تراها
“حين أَنظر إِلى العصافير تتناقر في عُنف، لاحظتُ أَن معظم الصُوَر التي أَراها، هي لعصافير تتغازل، أَو تتناقر من أَجل فُسحة للتغازُل. وكان يدهشني كم هي متشابهة وسْط الطبيعة في حالات نزاع وخصام، وحالات شغَف أَو أَلَم. وأَظن أَن طقوسنا، كبَشَر، ليست مختلفة عن هذه الحالات”.
بهذه الكلمات المعبِّرة اختصرَت الفنانة التشكيلية الإِنكليزية ليزا لُوْيْدْ تجربتها مع الورق وقولبَتِه أَشكالًا وتخيُّلات ووضعيات. فهي بأَوراق رقيقة ملوَّنة تفصِّلُها وفْق الشكل التي تعتمدُه، ومعها أَنواع وقياسات مختلفة من المقصَّات والأَشفار، تقولب الورقة وتطويها وتدوِّرها وتلولبها وتُزاوجها مع غيرها حتى تركِّب المجموع لتَخرج بعصفور تروي ريشاتُه ما في باله من تعابير تُترجم حركتَها أَطباق الأَوراق المتلازَّة الملوَّنة المرتبطة بصمغ خاص حتى تخرج “المنحوتة” ديناميةً لا جامدة، ومتحركةً لا ثابتة.
ورق مقوَّى وكرتون مخفَّف
تركِّز ليزا أَن ما “تنْحَتُه” بين يديها، غالبًا ما تكون رأَتْه في الطبيعة الوسيعة أَو عاينَتْه في الصوَر أَو لاحظَتْه على الأَغصان من مشاهد حية، فتنقلها إِلى أَصابعها تغزل بها طواعية الورق كي تطوِّع الأَشكال. وإِلى الورق الرقيق، تستعين ليزا ببعض الكرتون الرقيق أَو الورق المقوَّى لمفاصل بين يديها تحتاج مساحات غيرَ رقيقة. وكلما أَنهت “منحوتة”، تصوِّرها فوتوغرافيًّا كي تحفظ ما فيها من تعاريج وتفاصيل، مستفيدةً منها كي تُكمل إِلى المنحوتة التالية بالتقْنية ذاتها، مع إِضافات تطرِّزها في العمل التالي كي لا تُكرر شكلًا ولا تراوح في الأُسلوب. وهي تستخدم الورق السميك داخل الجسم المكثَّف المقوى، وتترك الورق الرقيق للطبقة الخارجية التي لا تحتاج إِلى تقوية، كطرف الجناح أَو تلافيف القدم.
وتصرُّ ليزا بأَن الأَشكال التي تُطْلعها لا يمكن إِخراجها إِلَّا بالورق، فلا الرخام يُطوَّع ولا البرونز يُشَكِّل مثلما تستطيع أَناملُها أَن تطوِّع الورق. من هنا إِقبال الزبائن، أَفرادًا ومؤَسساتٍ وهواةَ مجموعات، على شراء أَعمالها، لِما تشكِّله من طلب المستهكلين الذين غالبًا ما لا يكتفون بقطعة واحدة لتزيين مداخل البيوت أَو الصالونات أَو غُرف المكاتب.
من الورق الجامد إِلى الشكل الحي
لم تختَر ليزا الورق مادةً لعملها لأَنه متواضع الكلفة، بل لأَن قماشته التشكيلية مطواعة حتى لتوحي بأَن الشكل الذي تُخرجه يبدو كأَنه لعصفورٍ حيٍّ فعلًا، مستريح، أَو متوثِّب، أَو “عاشق” يغازل، أَو يكاد أَن يهمَّ بالطيران في حركة ناشبة أَو دائرية أَو عمودية.
بدأَت ليزا مسيرتها الفنية في منتصف تسعينات القرن الماضي بمؤَسستها الفنية الخاصة بالإِعلانات عبر الأَشكال المتحركة، تنفِّذ طلبات للموسيقيين الكبار والفرَق الموسيقية الإِنكليزية المعروفة. ثم أَحست بالحنين إِلى ملامسة الورق حسيًّا بيديها لا عبر الشاشة، لتُخرج منها أَشكالًا حية.
وفي حديث إِلى إِذاعة “بي بي سي” هذا الأُسبوع، قالت إِنها، سنة 2010، كانت لديها فكرة “الطائر الطنان”، وهي تحبه وترغب في تجسيده بين يديها. بدأَت بالمحاولة في قص بضع أَوراق عادية A4 قولَبَتْها مع بعض الصمغ وتمكَّنَت من تشكيل “كولَّاج” جميل ذي بُعدَين، ثم راحت تواصل تجاربها حتى بلغَت تحقيق الأَبعاد الثلاثة كما كانت تتخيَّل أَن تبلغها. ومذذاك تخلَّت عن كل عمل آخر، وانصرفَت إِلى “النحت بالورق”، تلبيةً رغبةَ الزبائن إِلى التغيير من الشاشة الجامدة إِلى مُنْتَجٍ يدويّ نابض، ما شجَّع المؤَسسات التجارية على اقتناء هذا “الـمُنْتَج”.
الورق لا يقلُّ قيمةً عن الذهب
تعي ليزا أَن الفن الإِبداعي، في بعض جوهره، أَنه من نُدرة الذهب. مع ذلك لا تجد أَن الورق، في شكل إِبداعي خلّاق، يُقَلِّل من قيمة الـمُنْتَج الفني إِذا أَحسن صياغتَه فنان حاذق، فلا تعود قيمتُه في “ماهية المادة” بل في “كيفية استخدام هذه المادة”.
ولا تبخل ليزا في كمية المادة. ففي بعض عصافيرها الكبيرة أَنها استخدمت لها نحو 400 قصاصة ورق وكمية كبيرة من الصمغ. وتروي في حديثها ذاته إِلى إِذاعة “بي بي سي” أَن مجلة “وايتروز” (البريطانية الخاصة بالأَطعمة) طلبَت منها لغلافها سنة 2017 “تمثال ورق” لطائر قرقف أَزرق، حتى إِذا صدر العدد الجديد بهذا الغلاف، تهاطلت عليها الاتصالات من الصحف والمجلات ووسائل الإِعلام للسؤَال عن تقنيتها في هذا “النحت الورقي”. ومن يومها انطلقت شهرة ليزا وبدأَت تتوارد عليها الطلبات، لـ”نحت” عصافير وأَزهار وأَشكال مختلفة متنوعة، ولأَغلفة المجلات، بما بات يتخطَّى قدرتها على تلبيتها جميعها إِلَّا لوقت طويل.
الفن سماء، فضاء، إِبداع
إِنه الفن: سماء لا حدود لها، فضاء لا قياس له، وإِبداع لا تحديد له حين يولد من فكرة مبدع يحلم بها وينفِّذها في مادة هي حينًا مأْلوفة وأَحيانًا تفاجئ بجمالها الذي يكون أَمام العين العادية فلا تأْبه لها ولا تلتقط جماله، حتى ترنو إِليه عين فنان فتحوّله من العادي إِلى غير العادي، وهذا هو الإِبداع الخلَّاق.
كلام الصوَر
- ليزا لُوْيْد “تنحت” في الورق
- العاشقان يتغازلان
- زقزقة الأَصفر والأَزرق
- طيران واحد بأَجنحة كثيرة
- دوَران في المدى
- زوغة زهور من ورق