هنري زغيب
سُئِل يومًا رودان (1840 – 1917) عن سر إِزميله في نحته تمثالَ “المفكّر” (1880) بهذه التفاصيل المدهشة في ثناياه جميعًا. جوابه جاء بسيطًا على غرابة إِنما على عبقرية فريدة: “جئتُ بصخرةٍ كبرى، أَزلتُ منها النوافل والزوائد فبقيَ هذا التمثال”.
إِنها علاقة النحَّات بإِزميله، كما علاقة الكاتب بقلمه، كما علاقة الرسام بريشته. ليس المهم “ماذا” الإِزميل والقلم والريشة، بل “كيف” يعبّر النحَّات بإِزميله والكاتب بقلمه والرسام بريشته. الوسيلة هي الطريق، والغاية في كيفية التعبير.
هو الإِزميل إِذًا: ينحت في الصخر أَو في الرخام أَو في الخشب أَو في الحجر الجيريّ (الكلسي)، وتظل الوسيلة هي العبور. المهم ماذا يبقى منها بعد العبور.
إلى الصخر والرخام والخشب، يتَّخذ الحجر الجيري (الكلسي) مكانًا ومكانة في تاريخ النحت. من هنا أَهميته في المنحوتات. فالحجر الجيري مادة صخرية كسواها، إِنما أَكثر طواعيةً تحت ضربات الإِزميل، تتحول رخامًا (في معالجة كيميائية خاصة)، أَو كلسًا (عند إِحراقها شَيًّا). لكن النحَّاتين، منذ قدامى المصريين واليونان حتى اليوم، يفضلونها للنحت على سواها. فما أَصلها؟
الحجر الكلسي منذ القديم
الحجر الكلسي مادة رملية رسوبية صغيرة الحُبَيْبات، تشكِّلها ترسُّبات الطبيعة مع العُصور فتتحوَّل إِلى كربونات كَلْسيوم ومَغنيزيوم. ملامحها بيضاء، أَو مائلة إِلى اغبرار أَو اصفرار، تتجمّع صفائح طبشورية ذات شذرات من مادة لماعة بيضاء. والحجر الكلسي يتشكَّل في بيئة بحرية عميقة من ترسُّبات الأَصداف وتتجمَّع أَجزاؤُه مع الزمن في أَنواع عدة: حجر خشن، أَو طبشوري عادي، أَو طبشوري لماع، أَو كلسي بلوري. ومنذ فجر الحضارات تم استعمال الحجر الكلسي في صنع النواويس أَو بناء المنازل، أَو تكوين الكلس، أَو حجارة النحت.
في تاريخ الفن أَن النحت في الحجر الكلسي بين أَقدم مواد النحت منذ العصور الأولى، منذ النحت في الصخور الكبرى، وتبقى لنا حتى من العصر النيوليتي (كما في مغارة إرديش الفرنسية التي اكتشفها جان ماري شوفيه في 18 كانون الأَول/ديسمبر 1994) وفيها منحوتات باقية منذ 36000 سنة.
صفات مؤاتية
ويختار النحات حجارته الكلسية كتَلًا بدون تشققات كي يضمن عدم تفتتها تحت ضربات الإزميل. وتكون متعددة الطبيعة الحجرية: طرية أَو قاسية، كلسية (جيرية)، رملية، جبسية (جفصينية)، غرانيتية، بازالتية، وحتى رخامية (وهذه تتشكَّل من الحجر الكلسي).
وللنحت في الحجر، يبدأُ النحَّات بإِزالة أَقسام لا يحتاجها، ثم يحدِّد الشكل العام للمنحوتة، ويروح يشذِّب في تؤَدة حتى يظهرَ الشكل النهائي للمنحوتة.
من حسنات النحت في الحجر الكلسي أَنه طريٌّ مطيع تحت الإِزميل. استعمله اليونان كثيرًا (إِضافة إِلى الرخام) لمنحوتاتهم وتماثيلهم وأَشكالهم الهندسية. هو طيِّعٌ أَكثر من الرخام وأَقل كلفة، وتتقولب أَشكاله بسُهولة، لأَن تضاريسه متنوعة ومتعددة الأَلوان، ملمَسه حنون، وناعمةٌ تخرج المنحوتات منه صغيرتها أَو الكبرى أَو التي بالحفر النافر. وما زال المفضَّل حتى اليوم في الديكور المنزلي الداخلي (بناء المدفأَة)، والمقاعد في الحديقة، وحوض السباحة المنزلي، والنوافير في الساحات العامة،…)، ويصلُح لجميع أشكال النحت بين تصويري وكلاسيكي وتجريدي ومعاصر وحديث وطليعي.
ثلاثة خالدة
بين أَشهر تماثيل الحجر الكلسي، ثلاثة:
- تمثال نفرتيتي النصفي، بإِزميل النحات تحوتمس (نحو سنة 1345 ق.م.) للملكة نفرتيتي زوجة الفرعون أخناتون، إِحدى أَشهر نساء العالم القديم ورمز الجمال الأُنثوي. عثر عليه فريق تنقيب أَلماني في تل العمارنة ( مصر 1912). هو حاليًّا لدى المتحف الجديد في برلين.
- شهداء دير وِسْتْمِنْسْتِر (لندن) منحوتة فوق بوابة الدير لعشرة شهداء مسيحيين بحسب الكنيسة الأَنكليكانية (كما مارتن لوثر كنغ).
- بئْر موسى : منحوتة جلجلة كانت ذات فترة عند الرواق الكبير في دير الشَرتْريِّين (مدينة ديجون). صاغه نحو سنة 1400 النحات الهولندي الأَلماني كلاوس سْلوتِر (1340-1405) بطلبٍ من دوق بورغونيا فيليب الثاني (1342-1404). انهار قسمه الأَعلى في القرن الثامن عشر، وبقي قسمه الأَسفل وهو من ست جهاتٍ لستة أَنبياء هم برزخٌ بين العهد القديم والعهد الجديد.
شواهدُ الزمن
هنا ميزة الإِبداع: لا في “ماذا” الإِزميل والقلم والريشة، بل “كيف” يعبّر النحَّاتُ بإِزميله والكاتبُ بقلمه والرسامُ بريشته. الوسيلة هي الطريق، والغاية في كيفية التعبير.
وهنا ميزةُ الحجر الكلسي، وبه يمكن إِزميل نحَّات مبدع أَن يُطْلع روائعَ خالدة تبقى على الزمن شواهدَ الفن الدائم الحضور بعد غياب الحضارات.
كلام الصوَر:
- نفرتيتي: رمز الجمال الأُنثوي
- حفْر نافر في الحجر الكلسي
- الشهداء العشرة فوق مدخل دير وِسْتْمِنْسِتِر
- بئْر موسى: منحوتةٌ مسدَّسةُ الجهات