يومَها لم تكُن البيئة اللبنانية جاهزةً بعدُ كي تتلقَّى إِبداع الريشة.. سوى أَنه لم يرتدِع عن إِقدام: “لم يكُن أَهلي سمعوا بالفنّ، ولا بشيْءٍ يُسمَّى تصويرًا.. كان ذلك مُحرَّمًا في اجتهادهم، ويَعُدُّون فاعلَه كافرًا أَو زنديقًا” (من كتابه “قصة إِنسان من لبنان”-1954). وراح يناضل كي يُثْبتَ حضورًا سيكون له أَن يجعل لبنان الفن منارةً على قمَّة.. لذا، إِلى معارضه فترتئذٍ في الجامعة الأَميركية وسواها، أَصدر سنة 1933كتابه الأَول “رحلة إِلى بلاد المجد المفقود” (على مطابع “الكشاف”) تتصدَّره مقدمة من سيِّد النثر في عصره عمَر فاخوري: “كأَنْ لم تَكْفِكَ ريشتُك الساحرة التي أَخرجَتْ روائعَ الصُوَر، فأَتحفْتَ الناس بهذا الكتاب الذي يجعلُكَ المتقدِّم في فنكَ النفيس من دقة الملاحظة إِلى سعة الخيال”.
وها هو هذا الكتاب/التحفة، بعد 90 عامًا على ولادته، تعهَّدَتْه “منشورات صنوبر بيروت” في طبعة جديدة وطباعة أَنيقة أَمَّنَ صُدُورَها داعمون نُبَلاء: “صندوق التضامن مع لبنان”، “الصندوق العربي للثقافة والفنون”(آفاق)، و”مؤَسسة المورد الثقافي”، تعاوُنًا مع الابن الوفيّ حارس الإِرث هاني مصطفى فرُّوخ.. وتَعْذُبُ في الكتاب نكهةُ الطبعة الأُولى (1933) بصورة غلافها وصفحتها الأُولى والإِهداء بخط المؤَلف: “إِلى أَرواح فنانين أَغفلَهُم التاريخ وخلَّدَتْهُم آثارُهم الناطقة.. إِلى مُحبّي الفن والجمال أُقدِّم كتابي”.
هكذا يطلُّ اليوم علينا الكبير مصطفى فرُّوخ (1901-1957) هو الذي لَم يَغِب عنَّا بأَعماله تتناقلُها الكتُب والمواقع وتتواتر في رسوم أَعلام عصره بريشته التي لولاها لغابَت عنا، رسمًا نابضًا، وُجُوهُ أُولئك الأَعلام.
نصُّه المطوَّل عن الفن الأَندلسي، في التي سمَّاها “بلاد المجد المفقود”، مرَّ على الفن العربي عمومًا، فالأَندلسي منه خصوصًا، بُلوغًا إِلى الفن الغربي، مركِّزًا بعدها على ما شاهد (ودَوَّنَ قلمُهُ وسجَّلتْ ريشَتُه) في طليطلة وقُرطُبة وإِشبيلية وغرناطة، وعاد منها جميعها بباقةِ مشاهداتٍ نبَضَها قبل 90 عامًا وما زالت بين دفَّتَيه نابضة حتى اليوم.. تلك رحلتُهُ إِلى بلاد الأَندلُس التي “شُغفْتُ بها طفلًا وشابًّا، وسأَحتفظ بهواها مدى الحياة.. فالمجد والفنّ جديران بالحب والهيام”.. وهو انصرف إِليها مأْخوذًا بما رأَى فيها ودوَّن عنها وسما إِليها بقلمه الأَنيق وريشته المبدعة، حتى إِذا عاد منها نَثَرَ حبَّه على الورق فَنَبَتَتْ منه صفحاتٌ بين أَعذب ما يَقرأُ لهيفٌ إِلى مكامن الجمال.
مُحبٌّ هذا الفرُّوخ: ومن شغَفه بالرسالة التي تَكرَّس لها رسْمًا، راح يَبثُّها في تلامذته لا مُدرِّسًا عاديًّا بل أَبًا لأَولاد السوى في حرصه على إِدخالهم معابدَ الجمال في الفن، مؤْمنًا أَنْ لا ذائقةَ تنمو من دون شموع النذور في تلك المعابد.
ومخْلصٌ هذا الفرُّوخ: قناعاتُه راسخة، فلم ينجرف إِلى تيار عابر أَو مدرسة فنية دخيلة أَو موجة عارضةٍ تبشر بــ”الحداثة”.. ظلَّ مخْلصًا لكلاسيكيَّته التي نشأَ عليها طالبًا، وغرَفَ منها رسامًا، وأَبدع فيها خالدًا بريشةٍ مغمَّسة بأَرقى عُطُور الجمال، في رسْم منظرٍ أَو مشهدٍ أَو وجهٍ أَو موضوع، وأَثبَتَ أَنَّ الكلاسيكية لا عُمْر محدَّدًا لها، تتجدَّد مع كل عصر وتبقى نضِرةً في كل عصر.
وخالدٌ مصطفى فروخ: جميعُ ثمار الريشة التي أَينعَتْ طيلة عمره القصير (توفِّي عن 56 سنة) ما زالت يانعةَ البث والصدى والعبير، وهو ما قاله يومًا في زحلة لصديقه سعيد عقل: “عيني مليئَةٌ بالصحو والإِرادة والتطلُّع إلى قَولبة الجمال.. هي من صُنعي وصُنع هذا الجبل، تكُفُّ يوم نكُفُّ نحن عن أَن نكون”.
ويوم كفَّ النُور عن عينيه، كان عارفًا أَنَّ نُور ريشته سيبقى مضيئًا للأَجيال الآتية، كما وفَّاه في أَربعينه صديقُه سعيد عقل (الجامعة الأَميركية-آذار 1957) مخاطبًا حضورَه في الغياب: “يا صديقي مصطفى: باقٍ أَنتَ بالإِنسان الذي كُنتَه بيننا، تُناضل ولا تَكِلّ، تموت ولا تكُفُّ عن عطاء… مصطفى فرُّوخ، إِننا نحبُّك”.
بلى: ونحن أَيضًا نقول اليوم ما سيقولُه بعدنا كثيرون: “مصطفى فرُّوخ، إِننا نحبُّك”.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com