هنري زغيب
في زمن الموت الجماعي يكون الحزن جماعيًّا، لكنَّ موت الكبار يظلُّ له أَسى الحزن الفردي.
غيابُ الياس الرحباني الفرديُّ لامس القلوب جماعيًّا، فرديَّها الشخصي، بعيدَها والقريب، فكيف بالأَقرب مثلي، وكنا كما توأَمان لا يغشاهما بُعاد!
45 سنة… مسيرةُ عمْر من يومها الأَول حتى الغروب الأَخير.
وكان لافتًا بمصادفته يومُها الأَول.
الفرحة الرُباعية
نحن في نهار مالح من حرب 1975. يدعوني صديقي المحامي إِيلي خليل لمرافقته إِلى مقهى في زوق مكايل كي يوصل علبة صغيرة من أُمه إِلى صهره الياس الرحباني لزوجته نينا (شقيقة إيلي). ندخل المقهى. يكون الياس مع شقيقَيه عاصي ومنصور إِلى طاولة يتصدَّرها سعيد فريحة. فرحة رباعية! كيف أَنسحب منها مع صديقي وأَنا في هذه الحضرة الرباعية!
فور قدَّمني صديقي إِليهم بادرني سعيد فريحة بلهجته الطريفة: “هيدا إِنت هنري زغيب؟ يا صبي، قلمك أَكبر منَّك. مبسوط عند غسان؟”. وكان يقصد غسان تويني لأَنني كنتُ بدأْتُ النشر في “النهار” ويبدو أَنْ كان يقرأُني.
عبارتُه حفزَت عاصي ليدعوني إِلى المجالسة فالتعارُف. وكانت تلك الجلسة فاتحة علاقتي مع عاصي ومنصور امتدَّت منذئذٍ حتى غروبهما. وانتهت الحلقة بدعوة الياس إِياي أَن نكمل السهرة عنده. وهكذا كان. وحين خرجتُ من بيته سهْرَتَئِذٍ دخلْت قلبه، وحملتُه في قلبي إِلى أَن توقَّف قلبه هذا الأُسبوع ليبقى نابضًا في وفائي.
1975… خمس وأَربعون سنة. كيف أَختصر مسيرةً جمعَتْنا معًا كما أَندر الصداقات!
وسامُ الفرح من رتبة سعادة
يعرفه الكثيرون من محيطنا والأَبعد، صاحب الزهوة الزهرية، المرح الوردي، الجو الزنبقي المعطَّر بروحه البيضاء الجميلة تبذُر حولها الفرح والسعادة. فأَنى يكْن الياس يكُن هو الحلقة والجو والنجم والسطوع، حتى بات مقصد مَن تتلبَّد في نفوسهم غيوم رمادية يكشحها الياس بمزاجه الملوَّن.
وكان ذلك يُفرحه. ذات فترةٍ شكَّلْنا: الياس الرحباني، وجيه نحلة وأَنا، ثلاثيًّا تعهَّد زرْع الفرح في أُمسياتٍ مثلَّثة كان يتابعها جمهور وفـيٌّ حيثما نقَدِّمها: الياس يعزف من موسيقاه، وجيه “يرتجل” لوحة أَمام الحضور، وأَنا أَقرأُ من قصائدي التي كان لبعضها حظُّ أَن تُعانق أَلحانًا من الياس.
وفي جميع الأَلحان التي وضعها لقصائدي: “حبّة لولو” (الأُغنية المصوَّرة لوزارة السياحة)، “عُد بنا يا ليل” (سلوى القطريب)، “يا حبيبي” و”بيدر الأَبطال” (باسكال صقر)، “العودة من أُورفليس” (أُغنية مصوَّرة عن جبران) وسواها الكثير، كان الزهو يتقطَّر من ميلودياه فتنجح الأُغنية أَوَّلًا بفضل لحنه الجميل وإِيقاعاته الزاخرة بالحياة.
هذا مبدع مرصودٌ على النجاح. لا أَعرف، ولا أَظن أَحدًا غيري يعرف، لحنًا أَطلقه الياس ولم ينجح. فهو موهوب مرتين: لحنه المميز ميلوديًّا، وإِنجاحُه أَيَّ صوت يؤَدّي لحنه. وكم أَدّى حضوره، ملحنًا أَو مشاركًا، في إِنجاح أَيِّ برنامج يكون فيه ضيفًا أَو مُـحَكِّمًا أَو صاحب شارة موسيقية لمحطة إِعلامية، أَو واضع موسيقى تصويرية لفيلم روائي أَو مسلسل تلـڤـزيوني. إِنها بَصْمَتُه اللافتة في كل عمل يأْتيه. وأَرفض كليًّا، وأَنا مَن يعرفه كليًّا، كلَّ قول من طراز أَنه “عاش في ظلِّ شقيقَيه” أو “أَكمل خط شقيقيه” أَو “تأَثَّر بشقيقَيه”. مش صحيح. الياس الرحباني قيمةٌ في ذاتها لا تُشبه أَحدًا ولا حتى شقيقَيه. لم يأْخذ من عاصي ومنصور إِلَّا أَمرًا واحدًا وحيدًا: المستوى الراقي.
كلُّ هذا، في وجهه الآخر حيال السوى.
الحزن الحافي
غير أَنه، في جِلْساتنا الثُنائية وحدنا، كان له الوجه الأَول: الحزن العميق الآتي من مجهول لا هو يعرفه ولا يبوح به للسوى، زادَه غضبًا وحزنًا ما بلغَه لبنان من انحطاط في المستويَين الفني والسياسي.
مجهول، قلت؟ فعلًا. إِنه المجهول الصامت، لا وجه له ولا صوت.
سنة 1996 “حرَّضتُه” على جمْع نصوص كان كاتبَها وتاركَها بين أَوراقه. توَلَّينا انتقاءَها معًا، وأَصدرتُها له في كتاب اخترتُ له عنوان مقطوعةٍ فيه حبيبةٍ إِلى قلبه وروحه: “نافذةُ القمر”. وكتبتُ له مقدمةً أَلْمحتُ فيها إِلى حزنه اليتيم، جاء فيها: “هذا الضاحكُ من شفتَيه وعينَيه، يَقْطر قلبه انشعابَ آخ. هل مِن طفولته ما زالت هذه الـ”آخ” في صمته؟ أَم مِن غدٍ مجهول؟ يصعب القول. بعضُها سحيق في ماضيه، وبعضها الآخر سحيق في مستقبل يُخيفُه. وبين طفولة يقولها هو تاعسةً مغمَّسةً بالمعاناة، ومستقبل محفوف بالخوف من مصير أَو رحيل قبل وضع النوطة الأَخيرة، يقف الياس عند مفترق السؤَال في وِقفةِ مَن يسأَل ولا ينتظر الجواب، وِقفة مَن يأْتي من ذاته ترسَّبَت فيها صوَر وعوالم من بعيدٍ ضائع الإِقامة في الزمان عن ولد غير عادي، يهذي بغرابة جميلة لحورية جميلة في صحو ليلة صيف تتخطَّر قبالته في غابة أَنوار، وهو ساهمٌ واقفًا إِلى نافذة القمر”.
وبين ما جاء في نصوص الكتاب (ص 38) مقطوعة “شجرة الميلاد” (تاريخها 9/1/1974) مطلعُها: “لم تكُن لي شجرةُ ميلاد وأَنا صغير…لم تكُن لي سيارات ملونة…كلُّ ما كان لي: سيارة صنعها أَخي من الخشَب ومن تَنَك الكاز الأَسْود”.
شهادة منصور
سنة 1998 نوَيتُ له تكريمًا يليق بأَربعين عامًا على عمره الفني (1958-1998). طلبتُ من منصور أَن يقول عنه كلمة في الاحتفال. اعتذَر منصور: “لا يمكنني أَن أَتكلم في الياس دون استذكار طفولته بيننا، وهذا قد يجرَحه”. أَلَـحَّ في الاعتذار وأَلحَحْت في كشفه عن المخفيّ في طفولة الياس التي، بما فيها من ضباب، هي فاصلةٌ من تكوين عبقريته الفنية اليوم. ولمحْتُ يومها في عينَي منصور غصَّةَ أَن يقول الحقيقة عن طفولة تاعسة راكدة أَعماقُها في حزن أَخيه. غير أَنني، بما لي من حظْوة لدى الحبيب منصور، أَقنعتُه بالمشاركة. وليلة الاحتفال (30/3/1998) أَلقى منصور كلمته بصوت هادرٍ عميقٍ كما نبوءَة العرَّافين. ومما قال: “تَنَزَّهْنا في مساكن الفقر طويلًا. سكَنَّا بيوتًا ليست ببُيوت. تلك طفولتُنا، إِخوتي وأَنا. كان الزمان بطيئًا، فالتعاسة سلحفاة. وكان الصغير الياس يتَّكئُ على حافة انتظاراته: لفتةٌ في اللهو ولفتةٌ في الحرمان، فالفقر يُتْمٌ آخر. وظلَّ الياس يتكاسل حتى صار عبقريًّا (…). يا صغير الأَمس، كم كان يعذِّبني صوتك المبحوح آتيًا من طفولة مكسورة. كنَّا – وتعذُرني اليوم – نصارع من أَجل تأْمين اليوميّ والضروريّ. عندما بدأْتُ الكتابة عنك، تمرَّدَ قلمي وامتشقَ الكبَر. فاسمح لي اليوم أَن أَتناسى أُخُوَّتي لكَ وأَشلح جبَّة التواضُع، فالحقيقة أَن تُعلَن يا سيِّد الحزن الكبير. وإِنني أُحيِّيك على امتداد الصوت والتاريخ”.
أَطال الله عمر غيابه
اليوم، وهو غاب عنا ملتحقًا بعاصي ومنصور، لعلَّه حمل إِليهما ذلك الصمت العتيق كي يتجدَّد دومًا غيابُه إِبداعًا موشَّحًا بمرارة حزنٍ عرفَ، بعبقريته النادرة، كيف يُـحوِّلُه خفقةً دائمةً من قلبه الكبير تَـمُدُّنا من أَعماله بزَوغة الفرح الكبير.
كلام الصُوَر
- ثلاثتُنا تحت سنديانة دوما
- سهرةٌ رحبانية عند الياس. عن يميني: شقيقته إِلهام، الياس، زياد، غسان
- 45 سنة من صداقة متواصلة
- كلانا أَمام لوحة ثالثنا وجيه نحلة
- كان يحفِّزُني على الفرح الدائم
- غلاف كتابه