هنري زغيب
يحدث أَحيانًا أَن يعيش أَديب أَو مبدع في بلدته أَو منطقته فيقدِّره أَهلُها لِما يشكِّل اعتزازُهم أَن يكون بينهم، ثم يُوَفَّونه حقَّه بعد غيابه ببادرةٍ تتراوح بين شارع باسمه أَو مؤَسسة أَو تمثال. وقد يحدث العكس أَحيانًا: أَن يُـمضي المبدع عُمره في بلدته أَو منطقته، ولا تُعيره اهتمامًا فيغادرها إِلى مدينة أُخرى يُمضي فيها بقية حياته.
هذا ما حصل للكاتب الفرنسي مرسيل پـانيول Pagnol (1895 – 1974) إِذ جعل مرسيليا خصوصًا – والجنوبَ الفرنسي عُمومًا – مسرح معظم رواياته ومسرحياته وأَفلامه، ولم تُكرِّمْه مرسيليا على حياته فانتقل إِلى پاريس وعاش فيها متنقِّلًا بينها وبين نيس والنورماندي حتى وفاته.
معرض استعادي
أَسوق هذا الكلام اليوم لمناسبةٍ خاصةٍ به، إِذ بادر حفيده نيكولا پـانيول إِلى تنظيم معرض (بدءًا من هذا الأُسبوع) في قصر بوزينBuzine الذي كان جَدُّهُ اشتراه سنة 1941 من الأَموال التي درَّها عليه نجاحُ مسرحياته، وعاش فيه فترةً قبل أَن يَبيعَه سنة 1956 ويَهجرَ الجنوب إِلى العاصمة. سوى أَنه، مع ذلك، لم يكفر بنوستالجيا طفولته، فكتب في وصيته أَن يُدفن في آلوش Allauch بلدة ولادته (شماليَّ مرسيليا). واليوم يزور ضريحَه بعضُ أَهل القرية واضعين عليه باقات زهور، معتزِّين أَن تضُمَّ بلدتُهم رفات هذا الكاتب والمنتج والمخرج والأَكاديمي الخالد.
المعرض الحالي (طوال هذا الشهر آذار/مارس 2022) مخصَّص لپانيول السينمائي، يضمُّ مخطوطات سيناريواته، وأَشرطة بعض أَفلامه، وملصقاتها الإِعلانية، وصُوَرًا فوتوغرافية له مخرجًا أَثناء تصوير بعض الأَفلام، مقطوعات مكتوبة موسيقى تصويرية لبعض أَفلامه، مع صُوَر أَبرز ممثِّلين كانوا نجومها، وأَقربهم إِليه الممثل الشهير فرنانديل، وريموRaimu الذي لعب دور “سيزار” في فيلم “سيزار” لپانيول سنة 1936 فكان انطلاقَ شهرته طوال حياته. وعن مديرة المعرض ڤاليري فيديل أَن “پانيول، في هذا المعرض، عاد إِلى بيته بعد سبعين سنة”.
المتحف على الطريق
وأَكثر: مع مطلع هذا الشهر، توصَّل الحفيد الوفي نيكولا إِلى اتفاق مع وزارة الثقافة الفرنسية يقضي بإِنشاء متحف في آلُوش بدأَ التحضير له، ويُؤْمَل أَن يتم افتتاحه سنة 2024 احتفاءً بمرور 50 سنة (1974 – 2024) على غياب الكاتب الكبير، أَو في مهلةٍ قُصوى سنة 2025 احتفاءً بمرور 130 سنة (1895 – 2025) على ولادته في تلك البلدة الجنوبية.
المتحف سيكون في مبنى قديم مهجور على مدخل البلدة، كان معملًا لتوليد الطاقة الكهربائية يغذّي شبكة السكك الحديدية في مرسيليا الكبرى حتى 1960. وسيضُم المتحف أَغراضًا للكاتب تبلغ ست مرات أَكثر مما يضمُّ المعرض حاليًا. وعن جيرار سولير، المهندس الذي يتولَّى إِعداد المبنى متحفًا، أَنَّ “البقعة الخضراء حوله على تلك التلة الجميلة، سيتمُّ استثمارُها كلِّها بين مطعم للزوار، ومحترفات مجهَّزة للرسامين، وحدائق ذات ممرات مزهرة، وكلِّ ما يجعل المكان نابضًا بالحياة كما كان على أَيام الكاتب الكبير في هذه البلدة القديمة”.
جاكلين والسيف
من الأَغراض الثمينة التي سيضمُّها المتحف: السيف الخاص الذي يحمله عادةً كلُّ عضْو جديد يدخل الأَكاديميا الفرنسية. وكان پانيول انتُخبَ عضوًا فيها سنة 1946 وهو في عزِّ مجده الأَدبي والسينمائيّ، واستلَم مقعده (رقم 25) سنة 1947 وأَلقى، كعادة كلّ عضو جديد، خطابًا أَدبيًّا هامًّا جرى تصويرُه بكامله سينمائيًّا، ما كان سابقة أُولى في تاريخ الأَكاديميا الفرنسية. وسيف الأَكاديميا تركه پانيول في وصيته لزوجته الثانية جاكلين (1920 – 2016) وكانت من أَشهر الممثلات الفرنسيات في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. ويُروى أَنها يوم وفاتها (عن 96 سنة) كان قربها سيفُ زوجها الذي بقيَت تحافظ عليه في غرفة نومها، وتجد فيه حضوره الدائم معها ثلاثين سنة منذ زواجهما سنة 1945. وكانت جاكلين هي الحب الكبير في حياة مرسيل پانيول، من وحيِها كتب الكثير بين مسرحيات وروايات، وكانت بطلةَ عدد من أَفلامه السينمائية، أَبرزُها فيلم “نايـيـس” (1945).
المرحلة الثانية بعد أَسابيع
عن رئيس بلدية آلُوش أَن المرحلة الأُولى من ترميم المبنى لبدء العمل فيه متحفًا، ستنتهي في نهاية هذا الشهر أَو منتصف الشهر المقبل (نيسان/أَپريل 2022) كي تبدأَ المرحلة الثانية التي يُؤْمل أَن تستغرق سنةً أَو اثنتَين بين تجهيز غرف المتحف ونقل أَغراض الكاتب إِليه. ستتولّى البلدية إِدارته بإِشراف وزارة الثقافة، وستُنشئُ صندوقًا وطنيًّا لتمويل هذا المشروع يغذِّيه القطاعان العام والخاص.
في هذا السياق يعتب نيكولا على رئيس البلدية السابق الذي، طيلة 45 سنة من ولايته، لم يفعل شيئًا لتخليد الكاتب. فليس في البلدة سوى زقاق ضيِّق من بضعة أَمتار يحمل اسمه، فيما پانيول حبَّبَ العالم بمنطقة مرسيليا من خلال كتبه وأَفلامه.
بانيول في لبنان ومصر
لم تقتصر أَعمال مرسيل پانيول على فرنسا، بل اتسعت إِلى بلدانٍ أُخرى ولُغاتٍ أُخرى بينها لبنان ومصر.
سنة 1972 تولَّت شركة أَدڤيزيون (وكالة الإِعلانات الحصرية لـ”شركة التلڤزيون اللبنانية” القناة 7 – تلَّة الخياط) إِنتاجَ مسلسل “المشوار الطويل” (13 حلقة بالأَبيض والأَسود) تمثيل شوشو، محمود المليجي، جورج شلهوب (حاليًا نقيب الفنانين المحترفين) ومرسيل مارينا. كان السيناريو والحوار للكاتب فارس يواكيم الذي اقتبسه عن ثلاثية مارسيل پانيول الشهيرة: “ماريوس” (1929)، “فاني” (1931) و”سيزار” (1946).
وكان لشوشو في “المسرح الوطني” عملان من مسرحيات پانيول: “الأُستاذ شوشو” (1967) لنزار ميقاتي اقتباسًا وإِخراجًا عن “توپاز” (1928)، وعملٌ مسرحي آخر اقتبَسَه فارس يواكيم سنة 1975 بالعنوان ذاته عن مسرحية پانيول “زوجة الفران”، بسينوغرافيا غازي قهوجي وإِخراج يعقوب الشدراوي الذي أَجرى عليها 30 تمرينًا بين آب/أُغسطس وأَيلول/سپتمبر 1975. لكنَّ المعارك اشتدَّت في وسط بيروت، وسقطت قذيفة مدفعية على “المسرح الوطني” في الأَول من تشرين الأَول/أُكتوبر فاحترق كلِّيًّا، وتُوفِّي شوشو بعد شهر واحد (2 تشرين الثاني/نوڤمبر)، وبقيَت المسرحية في خزانة الذكريات.
وفي مصر كان لثلاثية پانيول (وخاصة “فاني”) حضورٌ سينمائيٌّ في فيلمين: “نَغَم في حياتي” آخر أَفلام فريد الأَطرش، اقتباس يوسف جوهر وإِخراج هنري بركات (1974)، وفيلم “توحيدة” تمثيل رشدي أَباظة وفريد شوقي وماجدة الخطيب ونور الشريف، إِخراج حسام الدين مصطفى، عن اقتباس للكاتب الكبير نجيب محفوظ (1976).
كلام الصور:
– جاكلين بانيول فرنانديل والحمار في فيلم “نايــيـس” (1945) – الصورة الرئيسة
- مرسيل بانيول وزوجتُه جاكلين حبُّه الكبير (1970)
- دخولُه بالسيف “الأَكاديميا الفرنسية” (1946)
- آخر صورة له (1974)
- شوشو لعِبَ ثلاثة نُصُوص من بانيول