شامخةَ الماضي كسيفٍ من ذهَب، غنيةَ الأَثَر كزهرة غاردينيا، صبيةَ العصور كأَرزةٍ على قمة لبنان، تحسُرُ بيروت عن صدرها فتكون لُقْيَاتٌ مذهلةُ العراقة، ويكون كشْفٌ جديد.. هي ذي بيروت، بيروتُنا، لؤْلؤَةُ لبنان والشرق، بيروتُ التي يوم كانت في المجد لم تكن وُجدَت بعدُ مدُنٌ وعواصم. فلكلِّ جديدٍ منها دهشةُ اكتشافٍ يرسُمُها في ذاكرتنا قلمٌ جديد.
والجديد هذه المرة: كتابٌ إِبداعيٌّ بالفرنسية للسفيرة جورجين الشاعر ملَّاط، نسجَتْهُ في أُسلوب قَصَصي ممتع، نادت إِليه خيالَها الروائي كي تُخبرَنا عن صدر بيروت إِذِ انفتح على واحتها الأَثرية في وسَطها التاريخي، لتكون مفاجأَةٌ أَكَّدَت كم ان بيروتَ “أُمُّ الشرائع” أَمَّها أَرباب القانون في الزمن الغابر، ويَؤُمُّها كلَّ يوم مَن يعرف كيف يقدِّر أَهمية بيروت على جبين التاريخ.
كتابُ جورجين ملَّاط: “مخطوط بيريت المفقود” (Le manuscrit perdu de Béryte) صدَر عن منشورات “شرق الكتاب” (L’Orient des livres) في 140 صفحة حجمًا وسطًا، تتصدَّر غلافَه خارطةٌ لبيروت في القرن السادس.
وتَروح جورجين ملَّاط، في أُسلوب روائي عذْبٍ ولغةٍ فرنسية شفافة، تنسُج قصةَ عالِم الآثار ريمون الذي، منذ 1994، يدأَبُ على البحث والتحليل بين الآثار المكتَشَفة في قلب بيريت الأَمس (بيروت اليوم) عن جواهرَ من الأَمس غارقةٍ في كثافة النسيان إِبان أَيام الحرب الشرسة بين 1975 و1990. ولهذه الـمُهمة المقدَّسة في وجدانه، تخلَّى عن التدريس لدى الجامعة الفرنسية المختصة بالآثار في أَثينا، وعاد إِلى مدينته الغالية بيروت ينقّب في آثارها. وذات صُدفةٍ سعيدة، فيما يغرز إِزميله في الأَرض، ارتطَم الإِزميل بجسْم صلْبٍ، أَزاح عنه التراب فإِذا هو صندوقٌ ذهبيٌّ مصقولٌ، عليه نقوشٌ ورسومٌ ترقى إِلى القرنَين الخامس والسادس. لم يتمكَّن من فتْحه، كونه مقْفلًا منذ قرون، فحملَهُ وأَسرع لهيفًا إِلى المتحف الوطني لدى صديقه رياض، وأَسرعا معًا إِلى المختَبَر حيث تَأَنَّيَا في فتح الصندوق. وما هي حتى بدأَتْ تَبانُ كتابةٌ قديمةٌ تبدأُ بعبارة: “أَنا نَنُّوس من بانوبوليس”. ذُهل الرفيقان وهما يعلَمان أَن ننُّوس هو صاحب “الديونيزياكا” (ملحمة من 48 فصلًا في 20 أَلف سطر). لذا استعانا بياسمينا، خبيرة الآثار والمخطوطات القديمة. وتباعًا أَخذوا يقرأُون في ما ينفتح أَمامهم من تلك الملفَّات: “أَنا تاليليه، الـمُدَرِّسُ في مدرسة بيريت، مكلَّفٌ بأَن أَذهب اليوم، في 9 تموز سنة 551، إِلى أَمونيوس، من تلامذة زكريا، وأُسديَ إِليه مخطوطَ ننُّوس الذي جاء من الإِسكندرية إِلى بيريت كي يَدرُسَ مبادئ القانون الموجودة في مكتبة بيريت”.
تساءَل ريمون: “معقول؟ أُيمكن أَن يكونَ هذا المخطوط انفَقَدَ بالزلزال الكبير في تموز سنة 551، وهو دمَّر مدرسة الحقوق في بيريت، وأَوقع بيروتَ في ظلمةٍ من التاريخ طيلة قرون؟ وإِذا فعلًا هو هذا، فهو مخطوط نادر وفريد عن الشرق في القرن الخامس، واكتشافنا إِياه سيكون مرجعًا نفيسًا لعلماء التاريخ والآثار”. وأَخذوا يقرأُون: “أَنا ننُّوس، بلغتُ العشرين فقرَّرتُ أَن أَدرس في مدرسة بيريت الكبرى للقانون، بنصيحة أُمي بنْتِ الإسكندرية، ولم أَكن أَعرف أَني سأَدخل عالَمًا لا يدخلُه إِلَّا برضى إِله الذكاء. سوى أَن والدي، الضابطَ الروماني المتقاعد، سمحَ لي أَن أَنتقل من الإِسكندرية إِلى بيريت، فبلغتُ مرفأَها في الخامس من تشرين الأَول سنة 425، وإِذ ترجَّلْتُ من السفينة، سحَرَتْني بيريتُ الرائعة ببحرها وقِمَمها الرائعات”. أَتوقَّف هنا، كي لا أُفسِد متعة مَن سيقرأُون هذا الكتاب الجميل عن “مخطوط بيريت المفقود”، وما فيه من كنوز عن بيروتنا الرائعة. شُكرًا جورجين ملَّاط على هذا الكتاب الذي فيه حوَّلْتِ ننُّوس من مفقود إِلى موجود، كي نكتشفَ الغنى الخالد لبيروتنا العظيمة، لؤْلؤَةِ لبنان التاريخي الخالد. هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com