هنري زغيب
متأَلِّقةً عاشت في أَيامها ثم منسيَّة غابت، حتى عادت اليوم في أَيامنا. على غلاف كتاب “السمفونيا المنسيَّة”، الصادر عنها قبل أَسابيع في پاريس، لَفَتَتْني عبارة “كم من مؤَلِّفات موسيقيات ينتظرن في مخازن التاريخ أَن يأْتي مَن يوقِظُهُنّ”؟
مبدعة منذ مطالعها
لعل هذه العبارة، على غلاف الكتاب، لا تنطبق على مُبدعة موسيقية كما على شارلوت سُوهي Sohy. مع أَن عوامل عدةً كانت تهيئُها للسُطوع. فهي نشأَت في أُسرة پاريسية ثريّة من والدٍ مهندس صناعي معروف، ووالدةٍ هاويةِ موسيقى وغناء فتحَت بيتَها صالونًا دوريًّا يجتمع فيه أُدباء وفنانون، فكبرت الفتاة باكرًا وسْط مناخ فني كلاسيكي.
هي شارلوت ماري لويز دوراي Durey. ولدَت نهار الخميس 7 تموز/يوليو 1887 في پاريس، وفيها عاشت وتوفيَت بعد 68 سنة (الإِثنين 19 كانون الأَول/ديسمبر 1955). منذ طفولتها بدت مغايرة على ذكاء لافت، وتلقَّت دراسة موسيقية غنية، خُصُوصًا: دروس پــيانو وهارمونيا مع المؤَلف الموسيقي وقائد الأُوركسترا المعروف عصرئذٍ جورج مارتي (1860-1908).
بانغماسها في هذا الجو الموسيقي الكلاسيكي، تعرَّفَت بالمؤَلف الموسيقي وقائد الأُوركسترا مَرسيل لابي Labey (1875-1968) وكانت لها معه قصةُ حب توَّجَها زواجُهُما في 12 حزيران/يونيو 1909 ورُزقا سبعة أَولاد. كانا يعقدان في منزلهما أُمسيات موسيقية يدعُوَان إِليها أَعلام العصر من العالم الموسيقي. وكتبَتْ بتوقيع شارل سوهي (مستعيرةً اسم جدها لأُمها) كلمات “بيرانجير” أُوپرا زوجها سنة 1912.
تأْليف لم ينقطع
انصرفَت إِلى التأْليف الموسيقي فكتبَت نحو 40 عملًا بين موسيقى قداديس وميلوديات ومقطوعات للپيانو ووتريات لثلاثة عازفين وأُخرى لأَربعة عازفين، وسمفونيا وحيدة (“الحرب الكبرى”) ومسرحية غنائية (“الخادمة المتوَّجَة”) عملَت عليها بين 1917 و1921. وبذلك تكون كتبَت موسيقى للغناء المنفرد، موسيقى للغناء الكورالي، موسيقى سمفونية، موسيقى الحجْرة، ومقطوعات خاصة للپيانو. وتبنَّت توقيع شارلوت سوهي، بعد أَسماء مستعارة أُخرى بينها كلود ڤنسان ولويس ريڤيير وأَسماء ذَكَرية أَخرى. كما كتبَت مسرحيات قصيرة ورواية، وطغى تكوينها الأَدبي على لغتها الموسيقية فرَفَدها بحس درامي ونَحا أُسلوبها إِلى المناخ النيورومنطيقي. وعزَفَ موسيقاها معروفون عصرئذٍ، بينهم موريس راڤيل (صاحب “البوليرو” الشهير).
على أَن أَعمالها أَخذت تنحسر عن المشهد الموسيقي بعد الحرب العالمية الأُولى، بسبب “ميزوجينيا” (معاداة المرأَة) سادت الوسط الفني منذ 1914 مع أَن مؤَلَّفاتها الموسيقية كانت تحمل أَسماء مستعارة ذَكَرية. لكن الباحثة فلورانس لوناي في كتابها الجديد “أَهم المؤَلِّفات الموسيقيات الفرنسيات في القرن التاسع عشر” (منشورات فايار پاريس 2006) أَنصفَت شارلوت فصنَّفَتْها مع عشرين مبدعة موسيقية في فرنسا بين 1789 و1914 كتَبْن ونُفِّذَت أَعمالهُنّ بتشجيع أَزواجهنَّ وبلغْنَ المؤَسسات الموسيقية والنجاح الجماهيري.
السمفونيا المنسيَّة
سمفونياها “الحرب الكبرى” – بعد مئة سنة من تأْليفها – صدَرَت للمرة الأُولى باسم “السمفونيا المنسيَّة” مساء الخميس 6 حزيران 2019 على “مسرح المشهدَين” في بيزنسون مع “أُوركسترا ڤيكتور هوغو” بقيادة ديبورا ڤالدمان، بعد عمل سنتَين متواصلتين مع عازف الكمان المنفرد فرنسوا ماري دريو، وفرنسوا هنري لاباي حفيد شارلوت.
الصحافية المعروفة پولين سومليه عملت قائدة الأُوركسترا على إِصدار كتاب “السمفونيا المنسية” (منشورات روبير لافون سنة 2021) لتتكرس شارلوت سُوهي إِحدى أَبرز مؤَلِّفات موسيقيات مبدعات في عصرٍ ذهبي ناضح بالأَعمال الكبرى لكن التاريخ رماهنَّ في النسيان لصالح المؤَلِّفين. وفي الكتاب حوار مع حافِظ أَعمالها: حفيدها فرنسوا هنري مرسيل لاباي مدير كونسرڤاتوار لوريان (500 كلم جنوبي غربي پاريس). وهو أَعلن أَن “السمفونيا المنسية” هي مطلع أَعمال أُخرى سيتم كشفُها وعزفها تباعًا لجدَّته التي اكتشفَها من خلال روعة موسيقاها.
الحفيد الـمُنقذ
قال إِنه لم يعرفْها إِذ كان طفلًا حين ماتت، لكنه يختصرها بكلمات: الصوفية، الغنائية، الثقة بذاتها وبالعناية الإِلهية. وعن الدافع سنة 1974، بعد عشرين سنة على وفاة جدته، إِلى تجميع كتاباتها النصية والموسيقية وتصنيفها وفهْرستها وتأْريخها وفكّ رموزها، قال الحفيد إِنه الوحيد الضالع موسيقيًّا بين الحفداء، وتاليًا أَوكل إِليه الأَمرَ أَعمامُه وأَخواله وتنازلوا له عن حقوقها في الساسيم (جمعية المؤَلفين والملحنين وناشري الموسيقى في پاريس).
وقال الحفيد إِنه وجد كتابةَ جدَّتِه الموسيقيةَ أَكثرَ إِبداعًا من كتابة جدِّه مرسيل (زوجها). لذا، فور تقاعَد من إِدارة الكونسرڤاتوار، أَخذ يهتمُّ بالعمل على نشر أَعمالها وانتشالها من النسيان، بدءًا من نقْل مخطوطاتها الموسيقية إِلى الكومپيوتر لحفظها. ومع التقدُّم في طبع أَعمالها كومپيوتريًّا راحت تتضح له مزاياها التأْليفية وخبرتها الأَدبية في الأَداء وكتابة الحوار المسرحي والرواية، ما ساعدها على طواعية كتابتها الموسيقية.
وعن سمفونياها “الحرب الكبرى” قال إِنه وجَدَها مبعثَرةً بين أَوراقٍ متراكمةٍ في قَعر دُرْج، وإِنّ جدَّته، عشية الحرب العالمية الأُولى، وكانت في السابعة والعشرين، أَظهرَت لأُستاذها ڤنسان ديندي رغبتها في كتابة مسرحية غنائية، فنَصحها أَن تكتب قبلذاك سمفونيا لتعتاد على الكتابة الموسيقية الطويلة. وحين التحق زوجها مرسيل بالخدمة العسكرية وذهب مع الجيش إِلى الحرب في ڤردان، كتبَت الحركة الأُولى من السمفونيا. وفيما هي تكتب الحركة الثانية صدَمَها خبر موت زوجها ثم أَفرحها خبرُ إِيجاده حيًّا إِنما مصاب بجروح خطيرة، فبقيت 3 سنوات تعتني به وتهتمُّ بالأَولاد، حتى أَنجزَت كتابة السمفونيا بتوقيع ش. سوهي (كي تُخفي اسمها المؤَنث). لكنها لم تُعزَفْ على حياتها بسبب الذوق الفني العام. فبَعد الحرب تغيَّر المزاج الشعبي وتصاعدت موجة الجاز ولم تعُد موسيقاها “على الموضة” خصوصًا سمفونياها ذات المفاصل الدرامية، فلم تجد قائدًا يُبرمجها في مفكرته.
بعد 100 سنة
ذاك كان قدرَها القاسي: أَن تؤَلِّف سنة 1919 سمفونيا طليعية في عصرها أَحجم عن تنفيذها معاصروها فماتت ولم تشْهد عزفها ونامت السمفونيا في النسيان. مئةَ سنةٍ نامت، حتى جاء مَن يوقظها سنة 2019 ويُطلقُها باسم “السمفونيا المنسية” على جمهور أَحبَّها وقدَّر مؤَلِّفتَها، فانتشلها من الغياب ووضعها على خط الخلود الذي لن يقهره بعد اليوم أَيُّ نسيان.
(المقال التالي: المؤَلِّفة المنسية لويز فارِنْك 1804-1875)
كلام الصور
- أُوركسترا ڤيكتور هوغو تعزف “السمفونيا المنسية” (2019)
- شارلوت شُوهي يوم زواجها
- غلاف كتاب “السمفونيا المنسية”
- “السمفونيا المنسية” عمَلُ ثلاث سنوات
- من مؤَلَّفَاتها: مقطوعة للپيانو