هنري زغيب
ختام الحلقة الأُولى من هذا المقال (الثلثاء الماضي، “النهار العربي”، 11/5/2021) كان شائعةً نقَلَها الباحث روبن ووترفيلد عن ماري عزيز الخوري: وصيَّتها أَن تُدفَنَ معها رسائلُ جبران إِليها. لكنها توفيَت وبقيَت الرسائل. فأَين هي؟
في صيف 2017 اتصَلَت مؤَسسة “سوثبيز للمزادات العلنية” بالشاعرة والكاتبة اللبنانية الأَميركية ميّ أَلبرت الريحاني بصفتها فترتَئذٍ “مديرة كرسي جبران خليل جبران لدى جامعة ميريلند”، طالبةً إِليها التحقيق والتدقيق في 33 رسالة تَـمَّ اكتشافُها من جبران إِلى السيدة ماري الخوري (أَربع بالإِنكليزية و29 بالعربية).
تقرير ميّ الريحاني
حققَت الريحاني في الرسائل، وكتبَت تقريرًا بها إِلى المؤَسسة البريطانية التي، لدى قراءتها التقريرَ المفصَّل الموثَّق، استضافت الشاعرة الريحاني إِلى لندن نهار الثلثاء 27 تشرين الأَول/أُكتوبر 2017 كي تشرح في مركز المؤَسسة عن تلك الرسائل، مضمونًا وظروفًا، لجمع بلغ 80 شخصًا من المهتمين والخبراء، بين أُدباء ومتابعي جبران ومحبِّيه وهواة جمع الأَعمال الفنية النادرة والكتب بطبعاتها الأُولى.
سردَت الريحاني نبذة بيوغرافية عن جبران، ثم نبذةً أُخرى عن رسائل تلك السيِّدة النيويوركية التي كانت تساعد جبران وتستضيفُه في صالونها الأَدبي وتقدِّمه إِلى الحلقة الفكرية والفنية الأَميركية في المدينة. وهو كان يرتاح في التردُّد إِليها ، ويأْنس إِلى ضيافتها: مناخًا أَدبيًّا وفنِّيًّا ومآكل لبنانية وضيوفًا لبنانيين وأَميركيين. ورسمَت الريحاني خطًّا كرونولوجيًّا لتلك الرسائل بين 1908 و1920.
من هي؟
عن تلك السيِّدة شرحَت الريحاني أَنها من أُسرة عزيز، وُلدَت في لبنان سنة 1883، وهاجرت مع ذويها إِلى الولايات المتحدة سنة 1891، وتخرَّجَت سنة 1900 من كلية واشنطن (تأَسست سنة 1782 في مدينة تْشِسْتِرتاون – ولاية ميريلند)، وقد تكون أَول فتاة لبنانية أَو حتى عربية تخرَّجت من معهد أَميركي. أَنشأَ والدُها محلًا للمجوهرات في أَسفل مانهاتن (نيويورك) ثم انتقل به إِلى أَتلنتيك سيتي (نيو جرزي) . سنة 1902 تزوَّجت ماري من المهاجر اللبناني عيسى ميخائيل الخوري لكنه توفي عن 26 سنة بعد سنتين (9 آذار/مارس 1904)، وتوفي والدُها بعده بسنة. تولَّت ماري مهنة والدها بتصميم المجوهرات النسائية ونجحت فيها حتى راحت تظهر صوَر مجوهراتها في المجلات الراقية: “فوغ”، النيويوركِر”، “كريستشَن سايِنْس مونيتور”، وسواها. وبلغت من حضورها الأَدبي والفني أَن كانت ذات فترةٍ عضو مجلس أُمناء “متحف متروپوليتان للفنون” (نيويورك). وحين تُوُفيَت في الرابعة والسبعين سنة 1957، نعَتْها “النيويورك تايمز” على أَنها “إِحدى رائدات تصميم المجوهرات في هذه المدينة”.
وكشفَت الريحاني بعض محتوى الرسائل التي دققَت فيها، فإِذا معظمه عن بعض مؤَلفات جبران (بالعربية: “الأَجنحة المتكسِّرة”، “الأَرواح المتمردة”، وبالإِنكليزية “المجنون”) وعن لوحاته ومعارض يقيمها لأَعماله. وهو كان يعبِّر لها عن سروره بزيارتها، وأَنه لديها يشعر بروحه مزهوَّة، ويبوح لها بذلك في كلمات لا تخلو من الغزل الدافئ.
إِحدى الرسائل
بناءً على طلب الحضور ترجمَت الريحاني من العربية إِلى الإِنكليزية رسالة من جبران إِلى ماري الخوري، هذا بعضُها:
“يا ماري المحبوبة
منذ يوم الأَحد إِلى هذه الساعة، وأَنا بين الأَصدقاء والمعارف مثل سفينة في عُرض البحر تتقلَّب بها الأَمواج وتتلاعب بشراعها الأَرياح. وقد صرت متعوبًا (كذا) من التكريم والتبخير والدعوات، بل صرت مشتاقًا إِلى القرنة الذهبية المملوءَة بالهدوء والسكينة. والآن قد سرقتُ من الأَصدقاء ساعةً وجئْتُ لكي أَختلي في هذه الغرفة، وأُحدِّثكِ وأُنعش روحي بالأَفكار والأَحلام التي تحوم حول رأْسي عندما أَجلس منفردًا وأَفتكر بكِ. أَنتِ يا ماري مثل النسيم النقي الذي يمرُّ عند الصباح حاملًا عطر الأَزهار وأَنفاس الرياحين. فعندما أَفتكر بكِ أَشعر بنوع من الراحة الدخلية كأَن نفْسي قد تحمَّمت بأَمواج النسيم المعطَّر. قد مرَّ عيد الميلاد ولم يترك في قلبي سوى الأَسف والشوق والتذكارات المحزنة…”.
إِضافات أُخرى
ما لم يتَّسع الوقت لمي الريحاني أَن تشرحه للحضور، ولكي أَتبيَّن أَكثر عن تلك السيِّدة التي نادرًا ما يذكرها الباحثون، بحثتُ عنها في مراجع عدة، فوجدتُ بينها ما تقصَّاه الباحث المدقِّق جان دايه وذَكَرَه في كتابه “لكم جبرانكم ولي جبراني”، ونقلَه عن الصحافي نديم المقدسي الذي قابل ماري عزيز الخوري سنة 1951 مرَّتين في منزلها النيويوركي ذَكَرَهما في كتابه “مغامراتي في عالم الصحافة” وفيه خصص لها فصلًا عنْوَنَه “سهرة مع ماري الخوري ورسائل جبران ذات العاطفة الجنسية”. يقدِّر المقدسي أَن العدد هو 48 رسالة بينما يَذكُر النحات خليل جبران في كتابه البيوغرافي أَن العدد هو 200 رسالة. وتفاوتت المعلومات: ذكَرَ المقدسي أَن ماري أَحرقَت الرسائل، وذكَرَت مريانا فاخوري في مجلتها “المراحل” أَن ماري باعت تلك الرسائل. وعن عبدالمسيح حداد، رفيق جبران في “الرابطة القلمية” وصاحب مجلة “السائح”، أَن ماري الخوري دعتْه سنة 1956 إِلى تنسيق رسائل جبران إِليها، وهي نحو 200 رسالة بين عربية وإِنكليزية. لكنها أُصيبَت بمرض فقدان الذاكرة وتسلَّط عليها الأَميركي سيدْني وليامز فجعلَها توقِّع على وصية تركِّزُه قيّمًا على موجوداتها، ومنها الرسائل التي انتقلَت لاحقًا منه إِلى نسيب طرابلسي.
ولم يُعرف بعدذاك مصيرُ الرسائل، حتى ظهرت 33 منها هي التي حازتْها مؤَسسة سوثبيز في لندن وعرضتْها سنة 2017 في مزاد علني انتقلِت منه تلك الثلاثُ والثلاثون إِلى أَحد متاحف الإمارات العربية المتحدة حيث لا تزال حتى اليوم.
كلام الصور
- مي الريحاني في مؤَسسة سوثبيز (لندن) تَشرح عن الرسائل… (الصورة الرئيسة)
- … وتُجيب عن أَسئلة الحضور حول ماري عزيز الخوري
- صورة إِحدى رسائل جبران إِلى ماري الخوري
- ماري الخوري سنة 1955 إِلى مكتبها في محترف تصميم المجوهرات