(4 أَيار- مئَوية ولادة عاصي الرحباني: 1923-2023)
السنة الماضية (2022) ضجَّت فرنسا كلُّها بالمئوية الرابعة لولادة عبقريِّها موليير (1622-2022)، فأَعادت “الكوميدي فرنسيز” عددًا من مسرحياته، وانتشرَت في الجامعات والمدارس دروس عنه ومحاضرات ومسابقات، وأَصدرت دُورُ نشْر دراساتٍ عنه وكتُبًا وطبعاتٍ جديدةً لأَعماله، وخصَّصَت مجلاتٌ أَعدادًا خاصة له.
ونحن؟ ماذا عندنا نحن؟
أَمس الأَول (الخميس 4 أَيار) مرَّت الذكرى المئوية الأُولى لولادة عبقريّ لبنان الخالد عاصي الرحباني، والناس في مكان آخر، في وادٍ من البؤْس، في معتقَل زجَّهُم إِليه سياسيُّون أُمِّيُّون في حضارة لبنان ومبدعيه، شغَلوا شعبنا بحاجات حياتية يومية فتعامى الناس عن كلِّ ما هو أَبعد من هَمِّ الرغيف وتحصيل حفنة دولارات من حسابهم المصرفي كي يُعيلوا أُسَرَهم بكرامة.
شكرًا للصحُف التي خصَّصَت للذكرى صفحات أَو مقالات، لكنَّها جميعها حفنة ضئيلة مما كان يجب أَن نشهد في مئوية عاصي الرحباني الذي ترك لنا ذكرياتٍ ناصعةً عن لبنان الحقيقي، لبنان الوطن الخالد، لبنان الإِبداع إِرثًا لن يغيب.
صحيح أَن الإِرث الرحباني ممهور إِنتاجًا بــ”الأَخوين عاصي ومنصور”، وهذه مشيئَتُهما فلنحترِمْها، لكنَّ لعاصي في المملكة الرحبانية مقامَ الملِك، كما كان منصور دومًا يحرص على قوله وأَنا أُجالسه تكرارًا لوضع كتابَـيَّ عنهما “طريق النحل” (2001) ثم “في رحاب الأَخوَين رحباني” (2015)..كان منصور يسمِّيه “المعلِّم”، ويعزو إِليه اللمسة الأَخيرة من الإِنتاج الضخم الـمُضْني.
هَيبةُ عاصي كانت ساطعةً في كلِّ عمَل: كتابةً وتحريرًا وتنفيذًا وتسجيلًا وتمارينَ ومسرحًا وتصويرًا تلفزيونيًّا وسينمائيًّا.. وحتى في غيابه ظلَّ ساطعًا فقال فيه منصور بصوت فيروز (ليلة السهرة الرحبانية في بعلبك: 14 آب 1998): “لا تْقُول مَــنَّــك هَون… بَعدو ع الدْرَاج صوتَك… وبَعدا طايرَه فيك الدني”.
وساطعةٌ هيبةُ عاصي خصوصًا في جوهرته الأَغلى: فيروز، وهي في صمت العرَّافات الـمَهيب أَدرى الناس بعبقريَّته.. لن أَدخل في الحياة الزوجية بين عاصي ونهاد، لكنَّ عاصي وفيروز ثنائيٌّ في حجْم المستقبل.. تكفي مشاهدةُ عاصي يقود الأُوركسترا في حفلة “الأُولمبيا” (1979)، حتى أَطلَّت فيروزَتُهُ على المسرح لتغنِّي بحضورها الآسر الفريد، فاستدار عاصي كليًّا صوبها تاركًا عصاه وحدها مع الموسيقيين، وانصرفَ إِليها بكل وَلَهٍ وَوَلَعٍ وشَغَف، تمامًا كما انصرافُ العاشق بيغماليون بكل وَلَهٍ وَوَلَعٍ وَشَغَف إِلى تُحَفته غالاتيا.
في الذكرى الستين لولادته نشرتُ في مجلتي الشعرية “الأُوديسيه” (السنة الثانية، العدد 13، عدد أَيار 1983) أَربع مقطوعات لعاصي، أَخيرتُها كتَبَ فيها: “ما فيه حدا بْيَعرِف حدا… وما فيه حدا بْيقْرَب حدا… خلِّي البحور تْغُور”.
في مئوية عاصي، كنَّا نتمنَّى التشبُّه بالدول الحضارية، فتَنتَشِر في المدارس والجامعات والمؤَسسات الثقافية ندوات ولقاءَات عن عاصي كما أَسهَم مع منصور في بناء لبنان الحضاري، فيتعرَّف إِليهما الجيل الجديد، أَو على الأَقل نَشْهدُ تنفيذ قرار وزارة التربية قبل سنوات بإِدخال المسرح الرحباني في المناهج الرسمية.
في مئوية عاصي، أَتذكَّر يوم كنا نودِّعه عند باب الضريح على تلَّة أنطلياس (22 حزيران 1986)، كيف اتَّكَأَ منصور على كتفي وقال لي: “اليومَ، مع عاصي، تدفنون نصف منصور”.
في مئوية عاصي، أَستذكر عبارة منصور، وأَرى كيف اقتصرَت المئوية على بضعة تذكارات نبيلة من أَقلام وفيَّة، وأَرى إِلى لبنان الذي رسَمَهُ عاصي بصوته: “… وقوليلْهُن لبنان.. بعد الله يعبَدوا لبنان” وكيف بلادُه منصرفةٌ عن الإِبداع غارقةٌ في تفاهات سياسييها وحقاراتهم، فأَجد كم كان عاصي على حق أَن يقول: “ما فيه حدا بْيَعرِف حدا.. وما فيه حدا بْيقْرَب حدا.. خلِّي البحور تْغُور”.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com