هنري زغيب
في الجزء الأَول من هذا المقال عرضتُ لِمَطالع الوهن الذي أَصاب عَيْنَي الرسام الفرنسي كلود مونيه (1840-1926) فأَعاقه عن قدرة التمييز الواضح بين الأَلوان، وهي مأْساة مرعبة لدى رسَّامٍ كلُّ موهبته تنفذها عيناه.
مع هذا الجزء أَتوسَّع في تفصيل ذلك.
فرح النصر الوطني
الساعة 5:15 عصر الإثنين 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1918 تم التوقيع على اتفاق الهدنة الذي أعلن انتصار الحلفاء وانكسار ألمانيا ونهاية الحرب العالمية الأولى (1914-1918).
صبيحة اليوم التالي (12 تشرين الثاني/نوفمبر) كتب مونيه إِلى صديقه رئيس الحكومة ووزير الحربية جورج كليمانصو: “فرحي لا يوصَف. أَكاد أُنهي لوحتين سأُوقّعهما في احتفال إِعلان النصر وأُهديهما بواسطتك إِلى الوطن”. كان في نيته أَن يُهدي وطنه لحظة من السلام. بعد موافقة بول لِيُون (مدير دائرة الفنون الجميلة)، راح كليمانصو يقْنع مونيه أَلَّا تقتصر الهدية على لوحتين بل على مجموعة متجانبة من لوحات تزينية معبرِّة. لكن ذلك لم يكن سهلًا إِذ كان مونيه بدأَ يواجه حقيقة صعبة: أَن مفعول القطرات الطبية والنظارتين لم يكن للشفاء بل لتأْجيل العملية الجراحية. فهو بات فترتئذٍ شبه ضرير.
الخوف من الجراحة
في إِحدى المراسلات بينه وبين طبيبه شارل كوتْلَى، كتَب:
“جيفرني، 20 تشرين الأَول/أكتوبر 1922
صديقي الطبيب،
إِخال الوقت يقترب كي أَستسلم لمبضعك بثقة وإِيمان. إِنما – وأَعترف لك – أَستسلم بالكثير من الخوف. يمكنك إِجراء العملية الأُولى في الأُسبوع الأَول من تشرين الثاني/نوفمبر كما وعَدْتَني، والأُخرى في باريس بعد 15 يومًا. أُحسني مرتاخًا بفضل القطرات التي تجعل عينيَّ أَكثرَ انقشاعًا لا أَكثر رؤْية. لكن القطرات نفدَت عندي وأَضعتُ وصفتَك الطبية وعنوان الصيدلي. أَرجو أَن ترسل لي سريعًا بالبريد أُنبوبًا جديدًا، إِذ لا قدرة لي على وقف التقطير ولا يومًا واحدًا. شكرًا سلفًا، لكَ تحيتي واحترامي”.
هكذا، بدعم وتشجيعٍ من أُسرته ومن كليمانصو، أَجرى مونيه العملية الجراحية الأُولى لعيته اليُمنى في كانون الثاني/يناير 1923، لانتزاع كثافةٍ من محيط العدسة. تحسَّنَ نظره جزئيًّا لكنه عانى من الأَلم القاسي فرفض الرضوخ للعملية الأُخرى في عينه اليُسرى، كما عانى من نقد جارح تناول أَعماله الجديدة “كأَنها غير منتهية” لأَن بياض القماشة كان يبقى ظاهرًا في بُقَعٍ عدة من اللوحة، بسبب الضعف في رؤْيته تلك البقع الصغيرة البيضاء. ولم ينفعه ترقيعها أَو ترميمها لأَن بصره كان ينطفئ تدريجيًّا.
غموض في الأَلوان حتى الفضيحة
أَخذت لوحاته تنحو إِلى غموض تجريدي خلا من دقة الإِبداع الانطباعي السابق لديه. غابت عن أَعماله الأَخيرة دقة تموجات المياه في بَـحْرته الصغيرة أَمام البيت، خصوصًا في رسمه زنابق الماء التي أخذت تظهر كأَنها بقع نجوم بعيدة في الجَلَد.
قبلذاك، حين كان مونيه يزاول التدريس، كان يقول لطلَّابه: “حين تخرجون إِلى الرسم، تناسوا ما أَمامكم من مشاهد، شجرة، بيت، حقل، … وفكِّروا هكذا: هنا شكل مربَّع صغير، أَزرق، أَو زهري، أَو شكل بيضاوي أَخضر، أو باقة من الأَصفر، وارسموها تمامًا كما تبدو لكم، بالأَلوان ذاتها، والأَشكال ذاتها، حتى تعطيكم انطباع المشهد كما يبدو أَمامكم”.
وهو هذا ما انتهجه في جميع أَعماله: التقاطُ لحظة حياةٍ بالخطوط والأَلوان قبل أَن تنزلق. وحين بدأَ بصره يضعف، بات يرسم أَسرع كي يلتقط الهنيهة قبل أَن تتشوَّش رؤْيتُه أَكثر، فكان يتناول ريشته وينهال على القماشة البيضاء متناسيًا آلامه الجسدية في عينه والنفسية في باله، ورعبه من عملية جراحية لا مفرَّ له منها.
لا مفرَّ من القدَر
في 9 نيسان/أَبريل 1923، كتب إلى طبيبه:
“مررتُ بأَيام قاسية وحالات عصبية مُرَّة خفَّف منها تناوُلي حبَّات الدواء. إِنما بتُّ أَرى أَقل وأَضعف حتى حين أضع نظارتيّ. يُزعجني النور القوي في الخارج ويُرغمُني على الانحجار في عتمة غرفتي. اليوم، شعرت بوخز مرعب في عُمق عيني، وبإِحساسِ أَن فيها مياهًا تحجُب عني النظر. تحيتي لك”.
وفي رسالة أُخرى وكان في السادسة والثمانين:
جيفرني في 4 كانون الثاني/يناير 1926
صديقي الطبيب،
شكرًا على تمنياتكَ، وعلى أَنك لا تنساني، وأَنا أَيضًا لا أَنساك، رغم أَنك آلَمْتَني في الزيارة الأَخيرة لكنك أَعدتَ إِليّ بعض النور في عينيّ. آمل أَن تشرِّفني بحضورك إِلى الغداء ذات يوم مشمس في جيفرني، تحيتي لك”.
كليمانصو يتدخَّل
رغم التردد لإِيجاد وقت إِضافي كي يُنجز مجموعة لوحاته المطلوبة (19 لوحة هي اليوم مجموعة معًا في متحف الأُورانجري – باريس)، كان مونيه يسعى لإنجازها ضمن إِمكانات بصره المتهالك.” كان عليه إنجازُ هذا العمل الضخم الذي بدأَه قبل 12 عامًا.
في رسائله إِلى كليمانصو يتضح يأْسه. هنا مقطع من رسالة كليمانصو يحض فيها صديقه الرسام على إِنجاز عمله الضخم:
“صديقي السيِّئ الحظ، لا يهمّ عمر الإِنسان ولا ما منه يعاني، بل عليه، فنانًا كان أَو رجلًا عاديًّا، ألّا يحنث بوعد عقَدَه، خصوصًا حين يكون تعهَّد به لفرنسا. كنت سأَدعوك إِلى الغداء هذا الأحد لكنني تراجعتُ عن الدعوة. وإِذا بقيتَ مُصرًّا على قرارك المجنون، سأَتَّخذ بدَوري قرارًا أَقسى عليَّ مما عليك (…). أَنت الآن عجوز من بصركَ لكن إِبداعك نضِر، وأَنت تُيَبِّسُهُ بعنادك، وأَرفض أَن تفعل ذلك. إِنَّ أُعجوبة حقيقية حدثَت، وتستطيع أَن ترسم أَكثر وأَكبر وأَجمل. لا أَحتاج إِلى تذكيرك بالباقي فضميرُكَ المهني، متآلفًا مع الريشة في يدك، سيذكِّرك به حتى آخر نفَس من حياتكَ. هذه هي الحقيقة ولن أُخفيها عليك”.
ذانك الرجلان القويَّا الشخصية، كان أَحدُهما حاضرًا دومًا لتشجيع الآخر. لكن صداقتهما وحدها لم تكن كافية،. فمونيه، بسبب عمله المتواصل الذي أَنهكه جسديًّا ونفسيًّا، أُصيب بالتهاب رئويّ خطير أَلزمه الفراش. استدعي كليمانصو إليه على عجل، فهرع وجالسه حتى انطفأَ مونيه بين يدي صديقه كليمانصو في 5 كانون الأَول/ديسمبر 1926.
لا أَسْوَد على نعش مونيه
نهار المأْتم، حين رأَى كليمانصو نعش صديقه مغلفًا ببساط أَسْوَد، صرخ: “لا… لا… أَبدًا… لا أَسْوَد على نعش مونيه. الأَسْوَد ليس لونًا”. وبسرعةٍ مزق البساط الأَسْوَد، واستلَّ قماشة ملوَّنة غطى بها النعش.
بعد بضعة أَشهر، قام ميشال (1878-1966، ثاني أَبناء مونيه) فقدَّم مجموعة اللوحات التسع عشرة إِلى “دائرة الفنون الجميلة”، وتَمَكَّنَ النحات الفرنسي كميل لوفيفر (1853-1933) من إِنجاز صالتين كبيرتين في إِشراف كليمنصو الذي رعى افتتاح المعرض في 27 أَيار/مايو 1927 وهو الذي سمَّاه “متحف كلود مونيه”.
كلام الصُوَر:
- لوحة “زنابق الماء” ولا تفاصيل فيها
- كليمانصو (إٍلى اليمين) مع صديقه مونيه
- مونيه في أَيامه الأَخيرة طريح الفراش مطفأ العينين
- أَلوان مختلطة ولا دقة في تفاصيلها