هنري زغيب
في اعترافات بيتهوفن أَن سبب انفراده عن المجتمع ووقوعه في كُره الناس كان الصمَم الذي أَصابه في أَواخر حياته فَحَرَمَهُ من سماع الموسيقى الجميلة التي يؤَلِّفُها، فحاسة السمع أَساسية لديه. وهو ما أَصاب الرسام الفرنسي كلود مونيه (1840-1926) في أَواخر حياته إِذ بدأَ نظَرُه يشحُّ حتى لم يعُد يستطيع أَن يرى الأَلوان كما هي. وما أَقسى غياب السمَع عن الموسيقيّ وغياب البصر عن الرسَّام.
مأْساة شح النُور
سنة 1910، وكان مونيه في مطلع سبعينه، بدأَ يشعر أَن نظَرَه يضعف وأَنه لم يعُد يميِّز بوضوحٍ بين الأَلوان. وكان ذلك مؤشرًا خطيرًا أَرعبَهُ: أَن يفقد النُور في عينيه. لذا راح يبوح يائسًا بين أَصدقائه الأَقربين أَنْ يجيْءَ وقتٌ قريب سيتوقَّف فيه عن الرسم، هو الْكان شهيرًا بدقة نَظَره وبراعة استعماله أَجمل الأَلوان في لوحاته الانطباعية. وكان يختم عبارته اليائسة بأَنَّ “الحياة بلا رسْم ليست حياة بل مَوات بطيْء”.
سنة 1912، بعد فحص طبّي دقيق، ثبُتَتْ إِصابته بــ”عتمة عدسة العين”. هيَّأَ له طبيب العيون الشهير لايبريخ نظارتَين تُسعفانه في إِنعام النظر، وفرضَ عليه الخضوع لعملية جراحية في عينه اليمنى. في البدء رفض الرسَّام، إِنما بعد 1914 وخصوصًا 1915 أَخذ يفقد بصره تدريجيًّا، وتاليًا يفقد تمييزه بين الأَلوان. وما قيمة رسام لا يستطيع التمييز بين لون وآخَر كي ينقله إِلى قماشته البيضاء؟ وهي حالة مأْساوية عانى منها، ولو جزئيًّا، الرسام الفرنسي الآخر إِدغار دوغا (1834-1917)، والرسام الهولندي رامبرنت (1606-1669).
غياب النُور
بعد عشر سنوات من هذا الفقدان اللوني البصري التدريجي وافق مونيه على إِجراء العملية الجراحية في عدسة العين. وازداد قتامةً في حديثه حول ذلك مع أُسرته وأَقاربه وأَصدقائه بين 1912 و1922، أَي منذ عرف أَن المرض الرهيب الذي يتسلَّل إِلى عينيه سيؤَثر على عمله الفني بكامله. فبغياب النور الكامل عن عينيه، يفقد التمييز بين الأَزرق والبنفسجي ومعظم الأَلوان الدافئة، ولا يعود يفرّق بين الأَلوان بالوضوح ذاته. بات يرى الأَحمر موحلًا، وأَخذَتْ لوحاته تخرج قاتمة الأَلوان لسريان الأَشعة فوق البنفسجية في عينيه، فباتت، مثلًا، أَزهار الزنابق البيضاء على غير أَبيضها العادي، كما يظهر في لوحته الشهيرة “بُركة الزنبق” التي رسمها بعد إِصابته البصرية (نحو 1915).
أَخذ البعض ممن حوله يرى في تصرفه مرضًا نفسيًّا إِذ كان يصارع انهيارًا عصبيًّا، وضعفًا في ثقته الذاتية، وفقرًا في حالته المادية، واضطرابًا في يده اليُسرى (كان يرسم بها لا باليمنى) ووهنًا جسديًّا راح يزداد عامًا بعد عام حتى وفاته سنة 1926.
معالجة غياب النُور
أَخيرًا، سنة 1923، خَضَعَ للعملية الجراحية لكنه أَخذ يمزِّق، يائسًا، عددًا من أَحدث لوحاته، وتمكَّن أَعضاء في أُسرته وبعض أَصدقائه من إِنقاذ بعض اللوحات التاعسة. وصرَّح صديقه ورئيس الحكومة السابق جورج كليمنصو سنة 1927 في حديث صحافي: “كان مونيه يمزق لوحاته في نوبات غضب يسبِّبُها عدم رضاه على دقة الأَلوان في لوحاته. فهو لم يكن يرضى لعمله إِلَّا أَقصى الكمال”. وبالفعل كان هذا خوف مونيه: فما الذي يبقى للرسام حين يُنْزَعُ النور من عينيه، أَو حين يُحرَمُ من ريشته ولوحة أَلوانه؟ وقبلذاك لم يكن مونيه يحدُس بما كان سيجري لعينيه وهما فوَّارتان بالنور والعافية، متنقِّلًّا من موقع إِلى آخر، راسمًا ما تلتقطه عينه فتُترجمها ريشته، حتى استقرّ سنة 1883 بأُسرته في بلدة جيڤرني (80 كلم غربي باريس، في مقاطعة النورماندي) وفيها أَمضى بقية حياته، يرسم بشعف وحيوية، ويقطف نجاحًا وإِعجابًا بأَعماله الرائعة.
حديقة النُور
لكي يحيطَ ريشتَه بالجو المؤَاتي وعالم يشبهه، أَنشأَ حديقة واسعة باتت له ينبوع أَفكار وإِلهام، أَطْلع منها روائع اللوحات من زنابق الماء، والجسور اليابانية، والممرات المزهرة. كان بيته هيكلًا للجمالات أَلوانًا متماوجة وطبيعة مخضرة وفرحًا يوميًّا، وكان يأْنس فيها إِلى زوَّاره وأَصدقائه فيغبطونه عليها. وما زال البيت حتى اليوم يستقطب نحو نصف مليون زائر سنويًّا من كل العالم يتأَملون الواحة الجميلة التي أَطلعت تلك الروائع الزيتية.
غير أَن الفرح لا يدوم حين القَدَر يُنشِب فيه أَظافره اللئيمة. وهذا ما أَصاب مونيه. فمع مطلع القرن العشرين، بدأَت مسيرة الرسام تأْخذ منحًى انحداريًّا غير متوقَّع حين بدأَ منذ 1908 يشكو من ضعف في عينه اليمنى ثم في العينَين معًا حتى بيَّنَ فحصٌ أَجراه في تموز/يوليو 1912 أَنه مصاب بخطر انطفاء عدسة العين التي تُميِّز بِدقَّةٍ بين الأَلوان. أَخذ يرى الأَبيض على اصفرار، والأَخضر على وهْنٍ أَخضر، والأَحمر على برتقالي، والأَزرق والبنفسجي يميلان إِلى الأَحمر والأَصفر. وهو ما بدأَت طلائعه تظهر مع لوحاته الأُولى في البندقية (1908). منذئذ أَخذت التفاصيل تعذِّبه لبلوغها، كما يظهر تباعًا من تَتَبُّع أَعماله بعد تلك الفترة. كان الرسام يعمل بحماسة، والمرض يزداد ويرهقه نفسيًّا وعصبيًّا، وتهدِّدُهُ فكرة إجراء العملية لأَنه يتذكر حادثة الرسام هونوريه دومييه (1808-1979) إِذ فَقَدَ البصر بعد إِجرائه العملية الجراحية. وكانت جراحة العين عهدئذ في مطالعها الأُولى، والتخدير بدائيًّا يستعاض عنه باستخدام الكوكايين.
هل نجح في استعادة النُور؟ هذا ما أُعالجه في الجزء الثاني من هذا المقال.
كلام الصُوَر
- لوحة “البندقية” (1908): بداية فقدان التمييز بين الأَلوان
- مونيه في محترفه: قلق على التلوين من ضعف النظر
- اختلاط الأَلوان بدون دقة في التفاصيل
- زنابق الماء” (1920) : غياب التفاصيل
- الجسر الياباني في الحديقة (ضياع التفاصيل)