صديق أَثقُ به – وما أَندر مَن يستاهلون الثقة – حوَّل لي رسالةً إِلكترونيةً وصلتْه من سيدة عادت إِلى كندا إِثر زيارتها لبنانَ بعد انقطاعها سنواتٍ طويلةً عن أَهله وأَرضه. والرسالةُ جوابٌ عما كان صديقي سأَلها انطباعها بعد زيارتها لبنان، فكان في جوابها مثالٌ ودِدتُ لو يتعمَّم على جميع مَن يهاجرون إِلى العالَم ويظلُّون لبنانيين.
في جواب تلك السيدة، جاء: “رأَيتُ في لبنان كلَّ ما يراه المقيمون: رأَيتُ النفايات المكدَّسة، تابعتُ الأَسعار المضخَّمة، شاهدتُ البُنْيَة التحتية المهشَّمة، عاينتُ المرارة في العيون والكلمات، عانيتُ كثيرًا من زحمة الطرقات، أَزهقَني التلوُّثُ السمْعي في زمامير السيارات بلا رقيب، فُجعتُ بالفساد في جميع المرافق المباشرة التي يقصِدها المواطنون، فوجئتُ بنسبة البطالة خصوصًا في صفوف الشباب، ذهلتُ من بَطَر سياسين يتحكَّمُون برقاب الشعب كأَنَّ الناس أَعداد في حظيرتهم، صَعَقَني الجهل المتفشِّي بين كثيرين كنتُ إِخالهم مثقَّفين، وأَوجعَني هبوطُ الناس إِلى أَغوار فقدان الأَمل.
كلُّ هذا عرفْتُهُ في لبنان وخَضَّني. لكنني عرفتُ أَيضًا إِرادةَ الحياة في كل مكان، وبهجةَ العيد خارج النَقّ والتشاؤُم، ولمعةَ الأُنوثة لدى المرأَة اللبنانية، وحرارةَ الحب في العائلة والصداقة والأُخُوَّة، والوطنيةَ لدى مَن لم يُسَرطنْهم اليأْس من لبنان، ونبلَ المساعدة والمعاونة بعفوية ورحابة، وكرَمَ القلب والضيافة والروح اللبنانية، والأَحاديثَ الثقافية في حلقات نخبوية، والحماسةَ الواسعةَ للمباريات الرياضية، والروحَ الإِيجابية مهما كانت الصعوبات، وإِرادة البقاء وأَنْ ليس مِن هدفٍ يستحيل بُلُوغُه، والأَمانَ العاطفيَّ الحرارة في أَوساطٍ كثيرة… وفي خلاصةٍ وَردية: رأَيتُ بلدًا جريحًا لكنه منتصبٌ لا يلوي، رأَيتُ شعبًا مرهَقًا لكنه سعيد، رأَيتُ بيئةً ملوثةً لكنَّ فيها قلوبًا صافيةً طموحة، رأَيتُ وطنًا نابضًا بالحيوية بالرغم من كل ما يَنخرُه في دولته وسْلْطته، رأَيتُ لبنان ناصعًا كالغيم الأَبيض بعد تمزُّق الغيوم السُود، رأَيتُ وطنًا يجب أَلَّا يتخلَّى عنه أَبناؤُه، وطنًا يجبُ الإِيمان به وبعطاءاته التي تحميه من كل خطَر، وطنًا يجب أَن نعودَ إِليه مهما عنْه نأَينا. ويا وطني، يا وطني الغالي الحبيب، إِني عائدة إِليك مهما استطالَ غيابي. شكرًا لأَنك أَنت وطني”.
إِلى هنا انتهَت رسالةُ تلك السيدة اللبنانية في كندا، وهي ناضحةٌ بالحنان والحنين إِلى لبنان الذي عانَت فيه ما عانَت في القسم الأَول من رسالتها، وعاينَت فيه ما عاينَت في القسم الآخر. فالسلطة تُفسِد الدولة فتُهَجِّر أَبناءَها إِلى البعيد، والوطنُ يَشدُّهم إِليه من البعيد. وإِنما استشهدتُ بهذه الرسالة اليوم دلالةً على الفرق بين سلبياتٍ يسبِّبها تَخَلي السلطة عن دورها في بناء الدولة، وإِيجابياتٍ يَزخر بها لبنانُ الوطن من قيَمٍ وحمايةٍ نفسية وعاطفية ونوستالجيا لا تفارق اللبنانيين المؤْمنين بأَن الدولة تَدول والوطن باقٍ.
وهي هذه مشاعر المؤْمنين فعلًا بلبنانيَّة لبنان الصافية وقوَّته التي لم يهزمْها حدثٌ في التاريخ قديمِه والحديث، والمتشبِّثين به في عافيته وفي أَزماته. فالوطن أَبونا جميعًا، يَحضنُنا في عافيته ونحتضنُ صعوباته كي يُشفى فلا نتخلَّى عنه، وليس مَن يتخلَّى عن أَبيه في حالات مرضه.
بلى: نحتضنُه كي يُشفى، ونحبُّه كي يُشفى. فالوطنُ ليس فندقًا نغادره إِذا أَزعجنا أَمرٌ فيه فنحزمُ حقائبنا ونمشي إِلى فندق آخر. الفندقُ مُوَقَّتٌ مهما طالت فيه الإِقامة، والبيتُ دائم ولو لم نسكُنْه طَوال الوقت. الفندق يحمل هوية أَصحابه، والوطن يحمل هُويتَنا وانتماءَنا. وليس من يتخلَّى عن هويته وانتمائه إِلى أَوطانٍ للآخرين نظلُّ فيها غرباء ولو حملْنا جوازَ سفَرها الذي، هو الآخر، يحمل هُوية الآخرين.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com