ذاتَ قرأْتُهُ قبل زمانٍ سحيق، لا أَذكر أَنه عنى لي ما عناه حديثًا حين غُصتُ فيه دقيقًا لأَقطف منه مقاطع سكبتُ بها السيناريو والحوار للأُوراتوريو الذي طرَّز أَلحانه المؤَلفُ الموسيقي إِياد كنعان وقدَّمتْه قبل أَسابيعَ جوقةُ “فيلُوكاليَّا” بقيادة الأُخت مارانا سعد.. ربما لأَنَّ “النبي” كان في بالي قمةَ كتاباته، فكنتُ أَظنُّ، خطأً وخطيئةً، أَنَّ “يسوع ابن الإِنسان” في درجةٍ أَقلَّ ارتقابًا وخيالًا.
سوى أَنني، في قراءتي الأَخيرة، وجدتُه لا أَقلَّ من قمة فكر عاليةٍ يجدر بها أَن تكون طريقًا للتعلُّق بهذا الـ”ابن الإِنسان”.. وأَخُصُّ هنا، بين كثير ما فيه، تعلُّقَ جبران بلبنان الذي، على مدى الكتاب، لم يغِبْ عن باله، هو الذي غادر لبنان يومًا ولم يغادره لبنان ولا أَيَّ يوم.. ظلَّ يحلم بالعودة إِليه حتى إِذا تعذَّرَت، زاره تكرارًا بقلمه والريشة.. وإِذا لبنانُ في فُصول كثيرة من “يسوع ابن الإِنسان”، أَكتفي بضُمَّةٍ منها أَبسُطُها على ثلاثة أَجزاء.
ها لبنان في أَول فصلٍ من الكتاب: “يعقوب بن زبَدي” الذي يروي عن يسوع: “… ثم قال لنا: “لننتقِلْ صوب بلاد الشمال فنلاقي الربيع.. تعالَوا معي إِلى التلال فالشتاء انقضى وثلوجُ لبنان تذوبُ إِلى الأَودية كي تغنِّي مع الجداول”.. وراح يتقدَّمُنا مُصعِّدًا ونحن وراءَه يومئذٍ واليوم الذي تلاه.. وقبيل غُروب اليوم الثالث بلغْنا قمةَ حرمون فوقف يتأَمَّل مدُن السهل.. وأَشرق وجهُه كالذهب المسبوك فبسَطَ ذراعيه وخاطبَنا: “تأَمَّلوا كيف الأَرضُ ارتدَت أَخضرها، وكيف الجداولُ طرَّزَت أَكمامه بلُمَع الفضة”.
وها هو “عساف المسمَّى خطيب صُوْر” يتذكَّر عن يسوع: “سمعتُ في شبابي خُطباءَ روما وأَثينا والإِسكندرية لكنَّ كلام الناصريّ كان مغايرًا عنهم جميعًا.. حين تصغي إِليه تحس بقلبكَ غادركَ إِلى أَنحاء لم يَزُرها أَحدٌ بعد.. كان يَسرد قصصًا أَو يتحدَّث بأَمثالٍ ينسُجها من المواسم كما الزمنُ ينسج السنوات والأَجيال”.
وفي فصل “فيلمون الصيدلي الإِغريقي” جاء: “كان الناصريُّ طبيبَ شعبه، بمعرفةٍ جاءَته من الآلهة لا من الكُهّان.. وإِذا كانت الأَبواب انفتحت لأَبناء صُوْر والتيبِت، فأَمامه انفتحَت أَبوابٌ كانت مغْلَقَةً دون سواه”.
وها “سمعان المسمَّى بطرس” يروي: “كنتُ في الجليل مع أَخي أَندراوس على ضفَّة بحيرة طبريَّة حين للمرة الأُولى رأَيتُ إِلهي ومعلمي يسوع (…) وفيما نمشي معه على الرمل تَجرَّأْتُ وسأَلتُهُ أَن يَبيتَ ليلته في بيتنا فوافَق.. وإِذ دخل بيتَنا ذُهلَت زوجتي وحماتي وابنتي أَن يكون ضيفَنا المختارُ الحبيبُ الذي كنَّ رأَينَهُ عند نهر الأُردن يوم كرَّسه يوحنا المعمدان أَمام الشعب”.. ولبنان هنا مُضْمَرٌ في مياه البحيرة ومياه نهر الأُردن التي تتجمَّع من ذوَبان الثلج على جبل الشيخ.
ويُخصص جبران فصلًا كاملًا عن لبنان في “رفقَة عروس قانا” (ولا مجال هنا لإِثبات لبنانيَّة قانا، فالشَرح يطول).. وإِذ يَذكُر يوحنا في إِنجيله (الفصل 2 الآية 11): “تلك بدايةُ الآيات اجترحَها يسوع في قانا الجليل وأَظهرَ مجدَه فآمنَ به تلاميذه”، يكتب جبران بلسان رفقة: “جميع الذين كانوا عندنا في البيت شهِدوا أَنَّ يسوع اجترحَ أُعجوبة… وكنتُ أَنا سمعتُ عجائبَ في صوته”.
وها “فيلسوفٌ فارسيٌّ في دمشق” يقول: “… وفي هذه البلاد هنا، باتت الـمَراتبُ العليا وضيعةً بحسب مُشَرِّعي بيروت ونُسَّاك أَنطاكية”.
ويظلُّ جبران ينبض بلبنان في فصل “الغنيّ لاوي جار الناصرة” الذي يقول: “كان يسوعُ نجَّارًا حاذقًا، يُقَولب الصناديق من خشَب الأَرز يَصقُله ويثبِّته فتَقوى به متينةً”.
(السبت المقبل: جزءٌ ثانٍ)
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com