أَحَبُّ الكُتُب إِليَّ ما يكشف لي جديدًا عن لبنان. وهوذا أَحدثُ ما وصلَني قبل أَيام: كتابُ عاطف قيصر مرعي “لبنان الأُدباء والمؤَرِّخين”، صادرًا عن منشورات “دار سائر المشرق” في 400 صفحة حجمًا كبيرًا وطباعةً أَنيقة تُزاوج بين الشكل والمضمون، ضامًّا نصوصًا عن لبنان تاريخًا وحضارةً وإِشعاعًا من ثلاثة وخمسين بين أُدباء ومؤَرخين لبنانيين وعالَميين.
هذا العمل الأَنطولوجي المدقِّق، كان عاطف مرعي أَصدر قبله كتابًا أَنطولوجيًّا مهمًّا بعنوان “لبنان الأَنبياء والشُعراء” جمع فيه أَصفى ما صدَر عن لبنان منذ سحيق العصور النبَوية حتى اليوم. وها كتابه الجديد يقطِف نصوصًا عن لبنان في تسلسل كرونولوجي يبدأُ بالبطريرك أسطفان الدويهي وينتهي بالغائب حديثًا المؤَرخ أَنطوان الخوري حرب عن اسم لبنان في معناه اللفظيّ، منذ ظهر في اللغات السامية القديمة وبقي ماثلًا ساطعًا بهيًّا في جميع العصور.
أَفتح هذا الكتاب، يفوح منه أَرَجٌ مبارك من أَغصان الإِرث اللبناني، أَدبِهِ وتاريخِهِ، يُضافُ إِلى مائدة التراث الخالد خبزًا للأَجيال الجديدة، لأَن جيلَنا نحن عرف لبنان على حقيقته التاريخية والحضارية والطبيعية، ووعى فرادته بين الأَوطان. منَّا مَن آمَن وبشَّرَ بالمحافظة على الإِرث ومُواصَلَته، ومنَّا مَن كفَرَ به وأَشاح يأْسًا أَو رفضًا أَو عُقْمَ نظرٍ فوقَع في اللامكان وتاه بدون وُجهةٍ فبات هامشًا هشًّا على رصيف النسيان. لذا شدَّدْتُ على الجيل الجديد شبابًا وصبايا لم يعرفوا لبنانهم إذ يكَبُرون ولا يرون فيه سوى مناكفات سياسية تافهة وصعوبات اقتصادية ضاغطة وعوائق يومية داهمة، فيرفضونه لا يقدِّم لهم ما يجعلُهم يؤْمنون بمستقبلهم في هذا اللبنان، وإِذا بهم يكفُرون به ويهجُرونه إِلى حيثما يجدون الأَمان وأَبواب المستقبل.
مع كتابٍ كالذي أَطلعه عاطف مرعي تتغيَّرُ صورة لبنان فيفهم أَبناؤُنا من الجيل الجديد أَن وطنهم ليس ما يَظهر من تصرَّفات دولته العديمة وفشل سُلطته العقيمة، بل هو وطنٌ ذو أَعلامٍ ومعالِـمَ وعلاماتٍ يستحقُّ العمل للحفاظ عليها.
أًفتح الكتاب وأَقرأُ من لامرتين: “لا يجرؤُ العثمانيون على دخول لبنان حين شعبُه متَّحد. وباشوات عكا ودمشق لم يدخلوه إِلَّا حين فرَّقَت شعبَه مناوشاتٌ داخلية تُغلِّب فريقًا على آخر”. وفي مكان آخر كتب: “في مصر رجلٌ فرد، وفي لبنان رأَيت شعبًا”.
وهوذا إِرنست رينان يكتب: “كانت صُوْر أَول مدينة دافعت عن الحرية ضدَّ عروشٍ طاغيةٍ على ضفاف دجلة والفرات تهدد بخنْق الحياة في حوض المتوسط”. وهوذا كليمنصو يكتب للبطريرك الحويك: “إِرادة اللبنانيين بتشكيلهم حُكْمًا مستقلًّا ودستورًا وطنيًّا ناجزًا، يتلاقى تمامًا مع انتهاج فرنسا النظامَ الليبرالي”. ويكتب غبريال هانوتو: “جبال لبنان ليست الأَعلى في الجغرافيا، لكنها إِحدى أَعلى قمم التاريخ العالَمي، فالحكمة الإِنسانية ترسَّخت في ظلال أَرزه العريق”.
يضيق بي الوقت الآن لتعداد هذه الكنوز عن لبنان، وما أَغلاها كنوزًا عن لبناننا الغالي.
عاطف قيصر مرعي، بهذه الرؤْية التثقيفية الأَدبية والتاريخية، دخل بستانَ أُدباء كتبوا تمسُّكَهم بلبنان، ومؤَرخين نسَجوا أَهمية لبنان، ووعى أَجانبُهم ومحليُّوهم أَنهم يكتبون عن وطن خالد على جبين الصفحة الأُولى من كتاب التاريخ. ولأَجل هذا الجبين العالي، حبذا لو يكون كتاب عاطف مرعي في كل بيت، في كل مكتبة، في كل مدرسة وجامعة، كي يضافَ إِلى الحقيقة اللبنانية نورٌ جديدٌ يُبْقيه نابضًا في كل جيل سيأْتي، ويعرفُ تَمَيُّز لبنان وسطوعَه الخالد في مسيرة الحضارة الإِنسانية.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com