عشيةَ انطلاقِ السنة الجديدة بـاختيار “طرابلس عاصمةَ الثقافة العربية للسنة 2024” – كما انْتَقَتْها من بين مُدُن أُخرى كثيرة “منظمةُ الجامعة العربية للتربية والثقافة والعلوم” (“الأَلِكْسُو”) – كان لي في طرابلُس لقاءٌ مُؤَثِّـــرٌ بدعوة من “نادي ليونز فِكْتُر” لمناقشة ترجمتي كتابَ “النبي” لـجبران.
كان في اللقاء غصةُ أَنَّ وردَتَهُ التي هيَّأَتْهُ مليًّا ذَوَت وانقصفَت قبل موعده، فجاء مدعوُّوها جميعًا وهي لم تأْتِ. كان غياب رندة جرُّوس حاضرًا في الحضور والخطباء. وفازت شدا قصاب في امتشَاق المسؤُولية وإِنجاح الاحتفال على وجهه الأَكمل. وكان الدكتور جان جبُّور خطيب الاحتفال فقيَّم ترجمتي موضوعيًّا ورأَى فيها ما استحسَنَهُ وما لم يوافِقْني عليه، فجاءَت كلمتُه بعيدةً عن مباخر الصداقة، قريبةً من معيار النقد المجرَّد، وهو الخبير في شُؤُون الترجمة وحاملُ جائزةٍ عربية كبرى بها.
تلك الأُمسية، ملأَ قاعةَ المحاضرات في “مركز الصفدي الثقافي”، جمهورٌ ذواقةٌ، منصتٌ، متلقٍّ بعمقٍ مسؤُول، حتى أَني – وأَنا أَشرح ترجمتي وأَقرأُ منها مقاطع – أَحسَسْتُني أَمام لجنة تحكيمية واسعة تُصغي بكل ثقافتها وتتابع بكل مسؤُوليتها، فكان شرحي دقيقًا أَكثر، وكانت إِيضاحيةً أَكثرَ قراءتي نصوصًا من ترجمتي أَمام هذا الجمهور الطرابلسي المثقَّف، والشاعرُ عادةً يتفاعل أَعمق حين هو على المنبر أَمام جمهور ثقيف.
وبدَرَت في سمعي ليلتها عبارةُ “طرابلس العاصمة الثانية” فانتفضتُ… لِـمَ هي العاصمة “الثانية”؟ ولـِمَ هذا التصنيف التسلسلي التركيبي الأَجْوَف؟ ولِـمَ هذا الميلُ الكَسول إِلى التصنيف: صيدا “عاصمة الجنوب”، زحلة “عروس البقاع”، عاليه “عروس المصايف”، كأَنْ فَلْتَسْقط المدن اللبنانية التي لم تَحْظَ بـ”نعمة” التصنيف، في السهل أَو الجبل أَو الأَطراف.
أَبدًا.. أَرفُض ذلك بشدَّة. طرابلس مدينةٌ لبنانيةٌ عظيمةُ التاريخ والحضور والأَعلام والإِبداع، فلن تكون قطُّ “الثانية” ولن تَدخل التصنيف. ولا أَرضى بأَن تُصنَّفَ مدنُنا الواحات، فكلٌّ منها قيمةٌ كبرى في ذاتها، ولا يجوز تصنيفُها بأَلقابٍ كما تَدرُج في العامة أَلقاب “ملك الطاووق” و”ملك البطاطا” و”ملك الشاورما”… هذا عيب يلحق بمدننا الغاليات، وقُرانا الرائعات، وواحاتنا السعيدات، ولْنَتَّفِقْ على أَنَّ كلَّ مدينةٍ في لبنان وكلَّ قريةٍ ودسْكرة وناحية، لؤْلؤَةٌ لبنانية مستقلَّةٌ مُشعَّة، لها مواصفاتُها الخاصة، وهويتُها الخاصة، وبصمتُها الخاصة، وهنا غنى كلِّ واحةٍ حبيبةٍ من أَرض لبنان.
أَقول ذلك وأَغنى، وأُردِّد مع سعيد عقل عن واحات لبنان:
… وقرًى من زُمرُّدٍ عالقاتٌ في جوار الغَمام زُرْقِ الضياءِ
يتخطَّيْنَ مسرحَ الشمس يرَكْزُنَ بلادي على حدود السماءِ
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com