لا… طبعًا لا.. لن نُصَدِّق… وكيف نصدِّق وهو، بعدَ 93 سنة على غيابه، ما زال حاضرًا في الكتب وعلى المنابر، وبعد 100 سنة على صدُور “النبي” كتابه الخالد ما زال يُسيل حبرًا ويُثير أَصواتًا وأَصداءَ كأَنما صدَرتْ هذا العام طبعته الأُولى.
من الناس مَن يموتون قبْل أَن يموتوا، هُم الذين لا حضورَ لهم ولو أَحياء. ومن الناس مَن يموتون فورَ أَن يموتوا، هُم الناس العاديَّون المشكِّلون الكَثْرةَ القُصوى من البشر. ومن الناس مَن لا يموتون ولو ماتوا، وهُم العبقريُّون الذين لا ينطفئُ فيهم سوى النبْض الجسدي ليبقى أَثَرُهم مُواصلًا ذكْرَهم في الزمان لا إِلى انطفاء.
من هؤُلاء النادرين على الأَرض: عبقريُّنا جبرانُ الذي انطفَأَ نبْضُهُ عند الحاديةَ عشْرةَ إِلَّا عشْر دقائق ليلةَ الجمعة 10 نيسان 1931 في يوم حزين، لكنه ما زال يولَدُ كلَّ يوم مُبين، في طبعة جديدة من كتبه، في لغةٍ جديدة بترجمة جديدة، في دراسة عنه، في بحث، في ندوة، في مؤْتمرات عنه اندلعَت قبل أَشهر في لبنان والعالم احتفاءً بـمئوية كتابه الخالد “النبيّ”.
أَحدثُ هذه المؤْتمرات: “100 سنة من تَبَنِّي رسالةِ جبران الكونية” شهِدَتْهُ جامعة سيدة اللويزة مطلعَ هذا الأُسبوع بتنظيمِ ثلاثةِ مراكز فيها: “مؤَسسة الفكر اللبناني” برئيسها الدكتور طوني نصرالله، “قسْم اللغة الإِنكليزية والترجمة” برئيسته الدكتورة مايا طوني الحاج، و”برنامج البابا بنيديكتوس” برئيسه الدكتور إِدوارد عَلَم. وكان لافتًا أَن يكون المؤْتمر ليومين أَكاديميَّيْن في مكانَين مختلفَين: الأَول في حرَم الجامعة والآخرُ فوق، عند هضْبة الأَرز قريبًا من سُكنى جبران هانئًا هادئًا في دير مار سركيس كما كان أَوصى. وكان طبيعيًّا أَن يَختَتِمَ المؤُتمرُ يومَيْه بزيارة جبران في متحفه وأَن يشارك فيهما رئيس “لجنة جبران الوطنية” المحامي فادي رحمة، وأَن يتولى عنايةَ المعرض في الجامعة ومُرافقةَ الزوَّار في المتحف مديرُه جوزف جعجع. وإِلى دقَّة التنظيم في جميع الجلسات، توَّج المؤَتمرَ محاضرون أَكفياء، كلُّ كفيٍّ منهم أَغنى حصيلة العشْر الجلسات البحثية بِإِضاءةٍ جديدة على الإِرث الأَدبي المتنامي عن جبران كما يليق أَن يتنامى التراث الجبراني، بقراءة فصولٍ من “النبي” وتحليلها وأَثرِها في جيل اليوم.
ومع صُدُور نصوص المحاضرات قريبًا في كتاب، يَثْبُتُ أَنْ ما زال هذا الإِرث ينمو بجبران، مع جبران، لخلود جبران، ويبقى نابضًا يولَدُ كلَّ يوم، فَيَصْدُقُ حدْسُ ماري هاسكل يوم استلمَت أَولَ نسخة مطبوعة من كتاب “النبي” فكتبَت تُهنِّئُ جبران برسالةٍ صباح 2 تشرين الأَول 1923، جاء فيها: “هذا الكتابُ سنفْتَحُهُ في عتْمتنا كي نجدَ ذاتَنا من جديد، ونكتشفَ في داخلنا الأَرضَ والسماء. هذا كتاب، جيلًا بعد جيلٍ لن تستهلكَهُ الأَجيالُ المقبلة بل ستجِدُ فيه ما تَنْشُدُهُ، وستُحبُّه أَكثر كلَّما نضجَت. وطويلًا طويلًا مع مرور الأَيام سيُحبُّكَ كثيرون بعدما يرحل جسدكَ إِلى الغبار”.
وفعلًا: رحلَ جسَدُهُ إِلى الغبار قبل 93 سنة، لكنَّ نبضه ما زال حيًّا يتجدَّد كل يوم. ولعلَّ هذا بعضُ ما قصَدَهُ حين ختَم كتاب “النبي” هكذا: “بقيَت الميترا صامتةً تتأَمل السفينةَ حتى غامت بعيدًا في الضباب. وحين تَفَرَّقَ أَهلُ أُورفليس بقيَتْ وحدها واقفةً على رصيف الميناء، تترَدَّد في قلبها قَولتُهُ: “برهةً بعد، هنيهةَ راحةٍ في قلْب الريح، وتَـحبَلُ بي امرأَة جديدة”.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com