أَتخيَّلُهُما معًا، منصرفَين فى الإِسكندرية إِلى التحضير للإِصدار بعدما نالا، فى 27/12/1875، الإِذْن بِـإِصدار جريدةٍ سَمّياها «الأَهرام» إِجلالًا لـمصر التى تلقَّفتْهما فى ربوعها، هاربَـين من لبنان الطغيان الصارم بسطَتْهُ صرامةُ السلطة العثمانية على بلادهما.
ولم تَـطُـل فترة التحضير سوى بضعةٍ من أَشهر حتى صدر العددُ الأَول من «الأَهرام» صباح السبت فى 5/8/1876. ووسْط فرحتهما بهذا الإِنجاز الكبير، لم يمر ببالهما أَنهما أَطلقا جريدةً ستكون بعُمرها المديد أَوّلَ وأَهَمَّ جريدة، مصرية خصوصًا وعربية عمومًا، وأَنها ستكون عميدةَ الصحف العربية على الإِطلاق. كلُّ ما كانا يُحسان به أَنهما يَنعمان بالحرية فى ربوع مصر التى استقطبَت فى ذاك الربع الأَخير من القرن التاسع عشر كوكبةً مباركة من اللبنانيين، فاتحةً لهم آفاقاً نبيلةً من الوساعة الرحبة فى التفكير والتعبير، ما لم يكن متاحًا لهم فى بلادهم. وسرعان ما كان لهذه الجريدة الشابّة تأْثيرُها فى الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية فَـحَــوَّلها الشقيقان يوميةً بعد فترةٍ من صدورها أُسبوعية صباح كل سبت.
– 2 –
هكذا تحقَّق حُلم الشاب اللبنانى سليم تقلا يوم غادر بلدته اللبنانية كفرشيما سنة 1874 إلى الإِسكندرية: أَن يُنشئَ جريدةً ومطبعة، حتى إِذا التحق به شقيقُه بشارة تمكَّنا معًا من تحقيق الحلم. كان القدرُ قاسيًا على سليم: خطفه الموت سنة 1892 شاباً فى الثالثة والأَربعين، فأَكمل المسيرةَ شقيقُه بشارة حتى قصفه القدر القاسى سنة 1899 عن سبعة وأَربعين عامًا. لكنّ قدَر «الأَهرام» كان أَقوى من السقوط فى الموت، لأَن مصر يومَها كانت تنعم بحُكم الخديوى إِسماعيل الذى أَنشأَ فى مصر نهضةً مباركة فى ميادين الإِدارة والاقتصاد والعمران.
هكذا طموحُ ذينِك الشقيقَين بترسيخ تلك النهضة تجلّى فى إِبعاد «الأَهرام» عن اللغة المترهِّلة الطالعة من زمن الانحطاط، واعتمادِ الرصانة فى اللغة والأَخبار، واحترامِ قــرّاء راحوا يزدادون فى مصر وبلاد الشام، متابعين جريدةً ناشطةً تغذّيها ثقافةُ ناشـرَيها الشقيقَين وحرصُهما على تقديم الأَفضل كلّ يوم، ما سيجعل طه حسين يراها لاحقاً «ديوان الحياة المعاصرة».
ذاك كان قدَر «الأَهرام»: أَن تكون هَـرمًا نابضًا فى ظل الأَهرام التاريخية الجليلة، حتى إِذا انتقلَت إِلى القاهرة واصلَت رسالتها، يحمل شعلتَها لبنانيون آخرون بدءًا من ابن بعلبك الشاعر خليل مطران، فابن يحشُوش الكسروانية الصحفى داود بركات الذى وسّع آفاقها لتصبح أَكبر جريدة فى الشرق الأَوسط، وغاب سنة 1933 فواصل نهضتَها ابنُ بكفيّا أَنطون الجميّل جاعلًا إِياها قطب الحياة السياسية والفكرية والثقافية فى مصر وسائر العالم العربي، تلاه فى رئاسة التحرير سنة 1948 ابنُ بيروت عزيز ميرزا حتى 1955، ثم تولّى تحريرَها بعده مصريون مسئُولون واصلوا رسالة الجريدة بأَمانة ومسئُولية عاليتَين.
– 3 –
أَتخيَّل مصر تلك الحقبة: ورشةَ نهضةٍ صحافية وأَدبية كبرى، ساهم فيها لبنانيون أَحبُّوا مصر فبادلَـتْهم مصرُ هذا الحب، وأَثمر التفاعُل بينهم وبينها مسيرةً غنيةً بالتراث الفياض. وفى ظِل «الأَهرام» الـمَهيبة أَكمل لبنانيون تحقيقَ طموحاتهم فنما «مقتطف» يعقوب صرُّوف وفارس نمر، وظهَر «هلال» جرجى زيدان، وانبثـقَت «روز اليوسف»، وازدهرت أَقلامٌ وأَفكارٌ ورؤًى مع سليم سركيس وطانيوس عبده ويوسف الخازن وشبلى الشميّل وفرح أَنطون وابراهيم اليازجى ومى زيادة ووردة اليازجى وآخرين كثيرين من الأَرومة اللبنانية الباسقة.
جميعهم ظلَّلَتْهم «الأَهرام» بجلالها، مُواصِلةً شَقَّ المسار إِلى المسيرة، فى عُهدة لبنانـيّـين من وزن ابن زوق مكايل حبيب جاماتى وابن عشقوت الشيخ نسيب وهَيبة الخازن وسواهما، قبل أَن يتولّاها مصريُّون مُـتَـنَـوِّرُون نهضوا بها فى جدارة عالية.
أَتخيَّلُه، ذاك الزمنَ الصحافى اللبنانى فى مصر، افـتـتـحـتْـه «الأَهرام» فكانت منارةً باسقةً شعَّت على مصر وسائر الشرق العربي، وشقَّت طريقَها إِلى الخلود الذى ما زال ربــيـبَـها حتى اليوم.
– 4 –
جديدةً بدأَت «الأَهرام»، وجديدةً بقيَت مدى سنواتها المديدة، من كتابة الخبر إِلى التغطية المسئولة. ومنذ البدايات كانت حريصةً على كلّ جديد. سليم تقلا يحرِّر المقالات الناصعة، شقيقُه بشارة يتولّى جمْعَ الأَخبار والنصوص من الوكالات وترجمَتَها عن الفرنسية. وتُـقِـرّ ربـيـبـتُـها «الهلال» بأَن الجـوّ الذى كان يـبسطه الخديوى إِسماعيل فى مصر أَتاح تَفَتُّح تلك النهضة وازدهارَها. صحيحٌ أَنّ معظم اللبنانيين غادروا أَرض الأَرز طمَعاً بالأَمان والحرية فى أَرض الكنانة، لكنّ للخديوى إِسماعيل إِسهاماً فى ذاك التشجيع على ارتياد مصر بما أَمَّــنَـه من أَجواء مريحة للصحافيين والتجار ورجال الأَعمال، قصَدوا مصر وأَسهموا فى نهضتها. وعن «الهلال» أَيضاً أَنّ ما ساعد على انتشار «الأَهرام» فى مصر وسائر الأَقطار العربية حرصُ الشقيقَين المؤَسسَين على الـمُسالَمَة والاعتدال، ما شجَّع الكثيرين من أَصحاب المناصب المصرية العليا على دَعمها وتوسيع دائرة الاشتراكات حتى بلَغ مشتركوها آلافًا زيدوا على مشتركيها من القرّاء فى ربوع مصر والعرب. من هنا تَوَسُّع «الأَهرام» بفضل شبكةٍ عريضةٍ من العلاقات الداخلية والخارجية، رسميَّـتـها والخاصة، حتى إِذا انتشرَت بهذا الشكل الواسع تهافَت على دعمها أَصحابُ المؤَسسات الخاصة والرساميل الأَجنبية. وكانت «الأَهرام» تحظى برضى القنصلية الفرنسية ودعْمها وقطْف ولاء الجريدة فى زمن الاحتلال البريطاني، فكانت تنقل البرقيات من وكالات الأَنباء العالمية خصوصًا وكالة «هافاس» بالفرنسية و«رويترز» بالإِنجليزية ما وسّع دائرة الأَخبار فيها إِلى أَخبار العالم.
ولم تقتصر فرادتُها على التغطيات الواسعة بل تنصَّعت لغتُها الصحافية فى ذلك الزمان، وارتفعَت عن سجَعٍ بليدٍ كان رائجًا فترتئذٍ، واعتمدَت نشْر المسلسلات القصصية فزاد إِقبالُ القرّاء على اقتنائها ومتابعة مسلسلاتها. وبين جزالة الأُسلوب بقلَم سليم تقلا، ونشاط شقيقه بشارة فى إِجراء مقابلاتٍ صحافية مع رؤَساء الحكومات والوزراء وكبار المسؤُولين كانت جديدةً عصرئذٍ على الصحافة، باتت «الأَهرام» حاجةً يومية لقرائها أَينما كان، ما زاد فى إِعلاناتها التجارية تملأُ صفحاتِـها وتغذّى إِنتاجَها. وزاد من توسُّعها فى صفوف الشعب قيامُ بِــتْــسِــى تقلا (تولَّت إِدارةَ الجريدة بعد وفاة زوجها بشارة) بالدعوة إِلى تحرير الفتاة العربية وإِطلاق حرية المرأَة وإِعلان حقّها فى العلْم والعمَل، والدعوة الأَوسع إِلى التآخى المذهبى بين الطوائِف والمذاهب والأَديان ونبْذِ المناكفات والصراعات الطائفية.
– 5 –
ومن زوجة المؤَسس الشقيق إِلى عهد داود بركات: نقَل «الأَهرام» من جريدة بأَربع صفحات إِلى ثمانٍ فاثنَتَى عشرة، ما جعل «الأَهرام» عهدئذٍ أَوسَع الصحُف انتشارًا على الإِطلاق فى مصر وخارجها، بما كان يمتلك من قُدرةٍ كتابية وثقافةٍ رحبة وخبرةٍ صحافية بناها من إِصداره جريدةَ «الأَخبار» مع الشيخ يوسف الخازن، إِلى نزعته الأَدبية التى جعلته يُنشِئُ فى «الأَهرام» أَبوابًا جديدة لتشجيع التراث الأَدبي، منها «تقريظ التأْليف»، و«المؤَلفون والانتقاد»، و«ثمرات الأَقلام» وزوايا ثابتة أُخرى كانت جديدةً يومها على الصحافة. وزاد من تلك المصداقية فى العمل فـتْـحُ داود بركات صفحاتِ «الأَهرام» لدعوات الفضيلة يُطْلقها علماءُ الأَزهر لنشْر قِــيَـم الإِسلام الخلُقية، ولتبنّى الجريدة سائرَ القضايا الدينية السامية.
ويتولاها بعده أَنطون الجميّل، خطيبُ ذاك العصر والاسمُ الرائج فى الصحافة قبل تَوَلّيه مسئُوليةَ «الأَهرام»، اكتسبَ خبرتَها من تحريره «البشير» فى بيروت، ثم إِصداره «الزهور» فى القاهرة مع أَمين تقى الدين. هكذا نقَل «الأَهرام» إِلى حقْبة زاهرة من مجدها الصحافى والأَدبي، وجعل مقرَّها ملتقى كبار المصريين السياسيين والمثقَّفين. نال الجنسية المصرية وانتُخب عضوَ مجلس الشيوخ المصري، وعضوَ المجمع اللغوى فى مصر والمجمع العلْمى فى دمشق، وكان وفيًّا لِـمصر فمنحتْه مصر لقب «باشا».
وغنِمت «الأَهرام» من أَبناء الأَرز، بين تحرير حبيب جاماتى وابن عــبَــيــه نجيب كنعان وافتتاحيات نسيب وهيبة الخازن وآخرين، لتكون باسطةً جناحَيها على مدى وسيع من الزمن الصحافى المبارك.
– 6 –
كلُّ هذا أَتخيَّله اليوم، و«الأَهرام» تحتفل بالذكرى الأَربعين بعد المئة (1875-2015)، مواصلةً تأَلُّقها الصحافى فى سماء مصر وفضاء العالم العربي.
ذاتَ يوم من 1991، وكنتُ فى واشنطن إِبّان منآى الموقّت إِلى الديار الأَمريكية، كان لى فى طبعة «الأَهرام» الدولية (من نيويورك)، أَن أَكتب افتتاحيةً بعنوان «طقوسيّات لبنانية للدخول إِلى «الأَهرام»، قلتُ فيها:
«أَنا فى «الأَهرام»! كيف يُمكنني- ولبنانُ فى قلبى وفى قلَمي- أَن أَقف عند واحدٍ من عطاءَات لبنان فى الخارج، ولا تتداعى إِلى ذاكرتى أَسماءُ أَسلاف لى لبنانيين كانوا لـ»الأَهرام» مؤَسسين وأَركاناً وأَعمدة، أَو كانت لهم فى مصر «الأَهرام» بصماتٌ لبنانية انطبعت كما على كل هرمٍ بصَماتُ التاريخ؟
أَنا فى «الأَهرام»، فصفحةٌ بهيَّةٌ تنفتح لى من الأَدب العربى الحديث، خطَّها قبلى فى «الأَهرام»، قبل قرنٍ وربع القرن، لبنانيُّون مباركون ضاقَت بهم فسحاتُ الحرية فى لبنان (الواقع، أَيامها، تحت العَثْمَنَة) فهجُّوا إِلى مصر يَنشُدون منابر لحرية الكلمة والتفكير وجرأَة القول تَخلُّصًا من الديمقراطية العثمانية» («الأَهرام الدولي» – واشنطن 1991).
اليوم، بعد ربع قرن من تلك الافتتاحية، أَعود إِلى «الأَهرام» من جديد، أُشارك فى عيدِها الناصع، فأَتذكَّر أُولئك الأَسلاف اللبنانيين، وأَتخيَّل ذينَك الشقيقَين سليم وبشارة تقلا حقَّقا حُلمًا جميلًا فى الإِسكندرية سنة 1875 ولم يُدركا أَنّ حلْمهما الذى تَحقَّق، سيمتدُّ بعدَهما قرنًا ونحو نصف القرن، فتعلو «أَهرامُهما» هرَمًا آخر تعتز به مصرُ خلودًا وثباتًا.
أَتخيَّلهما يؤَدّيان الوفاءَ للبنان والولاءَ لمصر، فيحفَظ لبنانُهما وفاءَهما، وتبسط مصرُ ولاءَهما على تاريخها الحديث مؤَسَّسَةً ناهضةً نبيلةَ السُطوع معًا على إِرث مصر كما على تراث لبنان.
الرابط على موقع جريدة الأهرام: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/462344.aspx