كان ذلك قبل أَربعين عامًا، فيما أَتهيَّأُ للسفَر إِلى نيويورك رئيسَ تحريرِ جريدة “الهُدى”، حين التقاني عارضًا دَعْم الجريدة إِعلانيًّا كي تستمرَّ في الصُدُور، لِما كان له من طيب علاقة بي وبصاحب الجريدة فارس أسطفان.
وهكذا كان… وما كدت أَبتدئ بالعمل التحريري من مكتبي في مانهاتن، حتى وصل هو إِلينا، عاقدًا معي ومع صاحب الجريدة اجتماعاتٍ متواصلةً ساعدَت فعلًا على تغذية الجريدة إِعلانيًّا من خلال مؤَسسته الناشطة يومها (CAP=Canadian Arab Promotion).
سوى أَن الحنين شدَّ بي عنيفًا إِلى رحيق لبنان، فلملَمْتُ بقايا روحي في مانهاتن نيويورك، وعدْتُ إِلى أُمومة بلادي، فإِذا به يلقاني من جديد، مقترحًا أَن نبقى معًا من جديد، ما أَنتج مؤَسسةً إِعلامية هي “ريبوراما”، ومؤَسسة شقيقةً إِعلانية هي “ميدياراما”، تولى هو فيهما بخبرته الغنية الشقَّ الإِعلاني، فيما توليتُ أَنا الشقَّ التحريري.
ذلك هو شريكي يومها، وصديقي اليومَ وكلَّ يوم: فيليب يوسف الحتّي. وكنتُ كلَّما زُرتُه، أَو تمشَّينا معًا على رصيف المجمَّع البحري عند شطِّ نهر الكلب، أُعجَبُ من غِنى مراحل مسيرته المهنية في حقل الإِعلان التجاري، وأُعجَبُ أَكثر كيف لا يدوِّن تلك المراحل كي تبقى أُمثولةً توعويةً لكل جيل جديد.
سوى أَنه، قبل أَيام، دفع إِليَّ بكتاب “صناعة الإِعلان – سيرةُ حياة وإِنجازات” سكبَها له الكاتبُ يوسف مرتضى بأُسلوب سلِس جذَّاب، فهنئْتُ إِلى قراءته مليًّا، وتتبَّعتُ خُطاه تباعًا: من بدايات البحث عن إِعلان في جريدة حتى رفْع الإِعلان إِلى مرتبة الصناعة الحرَفية العليا. وإِن هو اتَّجه إِلى الإِعلان الصحافي، فمِن فضاءٍ صحافي مدَّه والدُه يوسف أَيوب الحتي مؤَسسُ جريدة “أَرزة لبنان” في البرازيل سنة 1916 ثم مُصَدِّرُها في لبنان حتى وفاته سنة 1945.
وأَقلع فيليب في ميدان الإِعلانات، أَيام كان الإِعلانُ عصب الجريدة، فراح يتنافس على اجتذابه إِليه كبارُ ناشري الصحف منذ الأَربعينات، فعاصَرَهم وقَدَّروه واحترمَهم جميعًا: من غسان تويني إِلى سعيد فريحة إِلى سليم اللوزي إِلى كامل مروّه إِلى طلال سلمان وسائر الكبار، لأَنَّ فيليب الحتّي جعل لبنان رائد الإِعلان الصحافي في كل العالم العربي. وتتبَّعتُ من كتابه مراحل تعَبه المضْني وعملِه المتواصل لجعل الإِعلان فنًّا مستقلًّا تُشَرِّف صناعتُه كلَّ مَن يقاربه، خصوصًا بما كان له هو من علاقات مباشرة مع زعماء ذاك الزمان وأَبرزهم رياض الصلح، ومن إِنشائه مع زملائه “نقابة وكالات الدعاية والإِعلان”، ومن تأْسيسه شركاتٍ إِعلانيةً كبرى رفعَت هذا الفن إِلى أَعلى مستوى مهني، من الإِعلان الصحافي الجامد إِلى الإعلان الإِعلامي المتحرك حديثًا.
لستُ هنا في استعراض كتاب “صناعة الإِعلان” كما وهَّجَها فيليب يوسف الحتّي، فلا يمكن أَنْ أُكَبْسِلَ في بضْع هنيهات سيرةً ومسيرةً باهرَتَين. إِنها لفتةُ صداقةٍ ووفاءٍ مني إِلى ابن الدامور الوفيّ الذي جعل في لبنان شمسًا نموذجيةً لحقل الإِعلان، فأُحيِّي جهودَه في تنصيع هذا الحقل بخبرةٍ ولا أَغنى، تجعلني اليومَ وكلَّ يوم، كلما أَفـيْءُ إِليه، وهو حاليًّا يزاول تقاعدَه التسعينيّ بشباب إِيجابي، يجعلُ من جلستي معه متعةَ اكتشافِ ما كان في لبنان، ذاتَ لبنانُ جوهرةُ هذا الشرق وملْتَفَتُ إِعجاب العالَـم.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com