هنري زغيب
يومئذٍ كان اسمُها “كليَّة بيروت للبنات” (بعدما كان “جونيور كولدج” منذ تأْسيسها سنة 1924 حتى 1948، وقبلما صار اسمُها منذ 1994 “الجامعة اللبنانية الأَميركية”).
ويومئذٍ كانت الصبيَّة نهاد حداد في مطلع شهرتها بِاسْم “فيروز” و”ذاتَ موهبة خارقة وصوت متفرِّد” (كما سيسمِّيها لاحقًا منصور الرحباني)، ولم يكن الجمهور يعرفها إِلَّا بصوتها الرائع من الإِذاعة اللبنانية.
ما كان قبل 70 سنة
نحن في سنة 1952. وفي “كليَّة بيروت للبنات” مديرةُ قسم الفنون مسؤُولةٌ عن الأَنشطة الفنية: السيّدة ماري عزيز صبري (لاحقًا دكتورة في التربية، وترأَّست الكليَّة بين 1967 و1969).
وكان في الإِذاعة اللبنانية شقيقان ناشئان: عاصي (29 سنة) ومنصور الرحباني (27 سنة) يُطلَّان على الوسَط الفني بشكل مغاير عن مأْلوف تلك المرحلة. لَمعا في حفلاتهما الغنائية ومسرحياتهما (بالفُصحى) في بلدتهما أنطلياس، وجاءَا إِلى الإِذاعة (1948)، وبدآ يُشكِّلان مع فيروز (1950) ثالُوثًا ناجحًا هو الذي لجأَت إِليه ماري صبري لـ”حفلة آخر السنة” في “كليّة بيروت للبنات”.
يومها كان في جعبة الأَخوين مسرحية (شعرية بكاملها) عنوانُها “غابةُ الضوء”، فكانت هي الجاهزة لــ”الحفلة”. تمَّت التمارين وظهَر العرض على مسرح الكليّة (مبنى إِروين) ليلة السبت 24 أَيار/مايو 1952 وفق توزيع الأَدوار التالي: هشام نشَّابة (ريَّان)، عاصي الرحباني (أَنكيدو)، لمياء كيلاني (ميناسيا)، ناهدة فضلي الدجاني (ضياء).
هشام نشَّابة يتذكَّر
قبل كتابتي هذا المقال اتصلتُ بالصديق الدكتور هشام نشَّابة (نال الدكتوراه في الدراسات الإِسلامية من جامعة هارڤرد سنة 1958، وكان في الحادية والعشرين حين شارك بالتمثيل في “غابة الضوء”)، فاستعاد لي ذكرياته العتيقة عن تلك المسرحية (قبل 70 سنة)، متذكِّرًا أَن فيروز عامئذٍ “كانت صبية نحيلة، شديدة التهذيب والخفَر، أَدَّت فواصل غنائيَّةً في بعض مفاصل المسرحية”. ولَفَتَني إِلى “أَهمية الديكور الـمُتقَن والملابس الأُسطورية وحرص المخرج عاصي الرحباني على دقَّتِها وأَناقتها”. وبسؤَالي عن منصور الرحباني، أَجابَني الدكتور نشَّابة أَن منصور لم يشارك في التمثيل ولا في الإِخراج، بل اقتصر حضوره على وضع النص والأَلحان مع شقيقه عاصي.
شهادة ناهدة فَضْلي الدجاني
أَعود إِلى الماضي لأَذْكر أَن ناهدة فضلي الدجاني (1934-2007) روَت سنة 1980 لمجلة “المجلة” (لندن) أَنها إِبَّان دراستها في الجامعة الأَميركية – بيروت، كانت مقرِّرةَ اللجنة الفنية في جمعية “العُروة الوثقى”، وسمعَت أُغنية لفيروز لَفَتَتْها فسعَت إِليها، وقابَلَتْها في الإِذاعة خلال تمارين غنائية مع عاصي ومنصور الرحباني، فاتَّفقَت معهم على “حفلة في الجامعة”، وكانت مسرحية “غابة الضوء”. لكنَّ الصديق محمود الزيباوي، وهو بين أَبرز – إِن لم يكن أَبرز – موثِّقي فضاء الثالوث الرحباني، كشَفَ أَن تلك الحفلة في الجامعة الأَميركية كانت سنة 1951، وأَدَّت فيها فيروز لوحة غنائية للأَخوين رحباني (“الخير والشر”) إِلى مجموعة أَغنيات، منها “ماروشكا”.
أَرشيف محمود الزيباوي
في محفوظات الصديق الزيباوي (من مقال له في موقع “المدن” الإِلكتروني) عددٌ من مجلة “الإِذاعة اللبنانية”، تاريخُه أَول حزيران/يونيو 1952، فيه مقال بعنوان “ليلة فنية في كليّة البنات الأَميركية”، ومعه صورة جاء تحتها: “المطربة المبدعة فيروز تتوسط فتيات الجونيور كولدج في “غابة الضوء”. ومن ذاك المقال هذا المقطع: “كانت ليلة السبت الماضي من أَروع ليالي الموسم وأَجملها. فقد شهدَت قاعة الاحتفالات في الـ”جونيور كوليج” نخبة ممتازة من الطبقة الراقية، جاءت لتحضر حفلة الجامعة السنوية. وكان في مقدمة الحاضرين دولة رئيس مجلس الوزراء الأُستاذ سامي بك الصلح وبعض النواب والوزراء والصحافيين. على مدخل القاعة كنا نرى فتيات في عمر الزهور وجمالها، يستقبلْنَ الجمهورَ والابتسامةُ اللطيفة الناعمة لا تفارق وجوههن، ثم يُرشِدن كلَّ صاحب بطاقة إِلى مكانه، مع كلمة ترحيب رقيقة تكفي لتجعلَه سعيدًا في تلك الليلة. ورُفع الستار للمرة الأُولى عن مسرحية “غابة الضوء”، وهي أُسطورية شعرية من تأْليف وتلحين الأَخوين رحباني. اشتركَت بالتمثيل والغناء فيها – إِلى جانب طالبات “الجونيور كولدج” – المطربة ذاتُ الصوت الساحر الحالم فيروز. و”غابة الضوء” تنحو إِلى الشعر التجريدي، وتحمل السامع إِلى أُفق ينفتح وراء حدود الكلمة. وزاد في روعتها جمالُ القائمات بالأَدوار التمثيلية فيها، وكلُّهنَّ من طالبات الصفوف العليا، كما أَثار التصفيقَ الحادَّ انسجامُهُن الشديدُ في تأْدية الرقصات الإِيقاعية المهذَّبة. وكانت هذه المسرحية صورةً فنية ترويها الحركات والخطوات على امتداد أَصوات ناعمة أَليفة. ولم يكن بين هذا الحشد الكبير من الفتيات الجميلات سوى أَربعة من الجنس الخشن أَسعَدَهُم الحظُّ فظهروا إِلى جانب تلك الباقة الأَنيقة المعطَّرة من الفتيات”.
أُصوِّب ما جاء في كتابي
عن تلك المسرحية، في كتابي “طريق النحل” (طبعة أُولى: نَشْر مؤَسسة جوزف د. الرعيدي 2001، وطبعة ثانية موسَّعَة بعنوان “في رحاب الأَخوين رحباني” لدى منشورات درغام 2015) وَرَدَ – نقلًا عن منصور – أَنها “مسرحية شعرية في ثلاثة فصول، غير منشورة، كتبها الأَخوان رحباني وقدَّماها في الجونيور كولدج سنة 1945”.
بعد اكتشاف محمود الزيباوي مجلة “الإِذاعة”، يقتضي تصويبي ما وَرَدَ في كتابي: سنة 1945 ما كانت أَعمال الأَخوين رحباني تخطَّت بلدتَهما أنطلياس. فعاصي انتقل إِلى الإِذاعة سنة 1948، ولم يعرف فيروز إِلَّا أَواخر 1949 أَو مطلع 1950 (ثم تزوَّجَا سنة 1955). وما ذكَرَتْه ناهدة فضلي الدجاني سنة 1980 لا يُمكن أَن تقصد به “غابة الضوء” لأَن جمعية “العُروة الوُثقى” كانت في الجامعة الأَميركية لا في “كليّة بيروت للبنات” (الجامعة اللبنانية الأَميركية لاحقًا).
هكذا دائمًا في الفنون والآداب: مفاجآتٌ تكشفُها الأَبحاث ذات يوم فيَغْنى بها التراث كلَّ يوم.
ذلك أَنَّ فضاءَ الإِبداع لانهائيُّ الـمُكتَشَفَات، شَمسُه واحدةٌ إِحدى لا شريكَ لها، وفيه دومًا مكان لكواكبَ جديدة.
هكذا الفضاءُ الرحباني.
وهكذا شَمسُه الخالدة فيروز.
كلام الصُوَر:
- فيروز (الثالثة من اليمين) على مسرح إِروين (“الجونيور كولدج”)
- مدخَل مبنى إِروين اليوم (تأَسس سنة 1947) وفيه صالةُ المسرح
- أَثناء التحضيرات للمسرحية: عاصي، فيروز، منصور
- غلاف كتابي وفيه “غابة الضوء” بنَصِّها الكامل