هنري زغيب
في الحلقتَين الأُولى والثانية من هذه الثُلاثية مـرَّت مراحلُ من حياة ڤان غوخ أَمضاها في عزلة وتعاسة، عوَّضَ عنهما بنَهَم الرسم تاركًا مجموعةً كبيرةً من اللوحات تَعَهَّدها شقيقُه الأَصغر تِيُو، وعمَّمَتْها بعد تِيُو أَرملتُه جُوانَّا، فذاعت وانتشرت وشكلَت له شهرةً ما زالت نابضة حتى اليوم.
ولكنْ… تَوَازيًا مع ثروته الفنية (879 عملًا بين لوحات ورُسُوم) ترك ڤان غوخ ثروةً أُخرى: رسائله (800 رسالة، منها 652 إِلى شقيقه تِيُو) لا تقلُّ إِبداعًا عن لوحاته، يَظهر فيها عُمْقُ تفكيره ونُضجُ رؤْيته الفنية ودُربَتُهُ في الكتابة بأُسلوب أَدبي عميق.
في الحلقة الأَخيرة من هذه الثلاثية، أَقتطف بعضًا مما جاء في رسائله.
من تِيُو إِلى جُوَانَّا
بين الرسالة الأُولى إِلى تِيُو من لاهاي (آب/أُغسطس 1872، وكان في التاسعة عشْرة ولا تفكيرَ لديه بعدُ في امتهان الرسم)، والرسالة الأَخيرة (لم يُنْهِهَا فبقيَتْ في جيبه يوم انتحر في 27 تموز/يوليو 1890)، سحابة 18 سنة ملأَها ڤنسنْت بنتاج ريشته وكان خلالها يكتب لتِيُو رسائل شبه يومية يعبّر له فيه عن شجونه وأَحزانه ومشاهداته وآرائه وطرق تفكيره وترجمة هذا التفكير بالريشة والأَلوان والتخطيطات، حتى باتت رسائله جُزءًا أَساسيًّا وضروريًّا لقراءة لوحاته ظُرُوفًا وأُسلوبًا وتطوُّرًا تشكيليًّا بدا واضحًا بين أَسطر رسائله.
سنة 1914 نشرَت جُوَانَّا40 رسالة من ڤنسنْت إِلى زوجها شقيقِه الأَصغر تِيُو، ملاكه الراعي وحاميه ومقدِّر فنِّه وداعمه ماليًّا ومعنويًّا حتى وفاته. صدَّرتْها جُوانَّا بمقدمة بيوغرافية وترجمَت 13 منها إِلى الإِنكليزية، فكان لصدورها أَثّرٌ بيِّنٌ على فهم سيرته ومسيرته، واكتشفَ فيه متابعوه، إِلى براعة أُسلوبه رسَّامًا، أُسلوبًا أَخَّاذًا في الكتابة أَيضًا، يتَّضح منه جانبٌ من شخصيته ومزاجه وطبيعته المتقلِّبة. واتضَح لاحقًا أَنه كان يُحرق كلَّ رسالةٍ تَصِلُهُ من تِيُو أَو من سواه.
تفاصيل وشكاوى
كان يَكتب لشقيقه عن كلِّ شيء في تفاصيل حياته اليومية، ويُرسل له كلَّ لوحة يرسمُها. من هنا أَهمية الرسائل أَنّ فيها حكاياتِه وشكاواه وتذمُّرَه وحميمياته ونداءات استغاثته، ما يساعد في الكشف عن مشاعر هذا الرجل الذي بات اليوم أُسطورة في تاريخ الفن التشكيلي، فيَتّضح أَنه لم يكُن مجنونًا – كما نَعَتَهُ نقَّادٌ لاحقًا – إِنما كان إِنسانًا مرهَفًا، قَلِقًا، مستوحِدًا، ممزَّقَ العواطف، مريضًا هزيل البُنْيَة، يعوِّض عن كل ذلك بالرسم المحموم حتى آخر لحظة من حياته، وبالكتابة المحمومة التي تنكشف فيه نفسيتُه وشخصيتُه.
وبلغ تعلُّقُ ڤنسنْت (1853-1890) بشقيقه تِيُو الذي يصغره بأَربع سنوات (1857) وتُوُفِّيَ بعده بستة أَشهُر (1891)، أَن تساءل النقاد عما كان مصير ڤنسنْت لولا عناية شقيقه به. فكلما جمحَت به موجة يأْس أَو انهيار، كان تِيُو إِلى جانبه يدعمه ويشدِّد من معنوياته. وهنا أَهمية تلك الرسائل التي يَظهر فيها، كما في لوحاته، مرةً كئيبًا، مرةً زاهيًا، ما يجعل نصوصَه عاكسةً تمامًا مزاجه في لوحاته.
ماذا في رسائله؟
هنا نماذجُ من رسائله إِلى تِيُو:
“ما الرسم؟ وكيف نبلُغُه؟ إِنه شَقُّ فُتحةٍ في جدارٍ حديديٍّ غير مرئيٍّ، ناشبٍ بين ما نُـحسُّه وما نَستطيعه. فكيف نجتاز هذا الجدار، ولا يفيد أَن نضرب عليه بقُوّة؟ الأَقرب أَن نحفره بالـمبرد، في تُؤَدَة، ببطْءٍ وصبر ومثابرة طويلة بدون تَوَقُّف” (الرسالة رقم 237 – نيسان/أَبريل 1882).
“… كلُّ ما حولي جميلٌ كما أُحبُّه… سلامٌ هُنا، وهُدُوء… حين يَنهمر المغيب، يَتهامس الصمتُ ويَنبسط السلام… تخيَّلْ معي هذه اللحظة، وانظُرْ إِلى مـمرٍّ تحرسه أَشجار الحَور العالية، أَرضُهُ مبلَّلةٌ بالمطر، نهايتُه ممتدَّةٌ طويلة، تتراءى فيها من البعيد خيالات أَكواخ مثلَّثة السُقوف، تتلأْلأُ من نوافذها شراراتُ حمراء تتفلَّتُ من المواقد. تخيَّلْ معي المنظر، عند انحناء المساء بفضاء أَبيض يتغلْغل في سواد الليل الآتي” (الرسالة رقم 340 – تشرين الثاني 1883).
“… هذا النهار مـرَّ بي كأَنْ في حلم. انغمسْتُ طواله كليًّا في موسيقاه العذبة حتى نسيتُ المأْكل والمشرَب.تناولتُ حفنة خُبزٍ من فلَّاح عابر، ورشفةَ قهوةٍ في ذاك النزْل الذي رسمْتُ فيه امرأَة خلْفَ دولاب المغزال. هكذا انسحب نهاري من فجره حتى المغيب، من طرف الليل السابق إلى أَول الليل الجديد، وأَحسسْتُني مغمورًا بالنشْوة، تَــيَّاهًا في هذه السمفونيا الساحرة” (من الرسالة 340 ذاتها).
يا صغيري…
“إذا بقينا بإِخلاص على حُب من يستحقُّون أَن نُحبَّهم، وأَلَّا نُضيِّع وقتنا معهم في أُمور صغيرة تافهة، نستمدُّ منهم نُورًا يُعينُنا على إِنتاجٍ أَجملَ وأَبقى. قصيرةٌ هي الحياة، يا الحبيب تِيُو، والعمرُ يهرع أَمامنا وعلينا أَن ندركه، وأَن نركِّز على دُربة واحدة في الحياة فنتقِنَها، وهي تُرشدنا إِلى ما حولها من صالح ومفيد. ولا تنس، يا صغيري، ما أُكرره لك دومًا: مَن يعرف كيف يسمع صوتَه الداخليّ، وهو صوت الضمير، يجد فيه صديقًا فلا يعود يشعر أَنه وحيد ولا مستوحد”. (الرسالة رقم 121 – 3 نيسان/أَبريل 1873).
“… نحن الآن في الرُبع الأَخير من قرنٍ أُحسُّه سينتهي بثورة كبرى قد لا نعيش أَنت وأَنا لنَشهد نتائجها. قد تقطفها الأَجيال بعدنا، وستغْنَم منها. لذا لا بدَّ من العمل بسرعةٍ ودأْبٍ وهدوء: أَنا في حاجةِ أَن أَقول لك رغبتي لو تأْذن لي بالمجيْءِ إِلى پاريس عندك، حاملًا علبة أَلواني وريشاتي فأَرسُم وأَرسُم وأَرسُم ما يُطلَبُ مني أَوَّلًا بأَوَّل، وبسرعة، وأَذهب فأَرسُم في اللوڤر أَو في معهد الفنون الجميلة، فهل ستَأْذن لي”؟ (الرسالة رقم 452 – شباط/فبراير 1886).
الرسالة الأَخيرة ( الرقم 652 – لم يُنْهِها لأَنه انتحر)
“يا تِيُو الحبيب، شكرًا على رسالتك الأَخير والـ50 فرنكًا. وأُؤَكِّد لك أَيضًا وأَيضًا أَنك، ولو تعمل تاجر لوحات في مؤَسسة تجارية، ستكون لك حصة مستقلَّة من بَيع لوحاتي، وهذا ما سينقذني من أَزمة دائمة أَعيشها بعدم إِيجاد من يشتري لوحاتي، أَو بين مَن يفضِّل شراء لوحات من فنان ميت على شراء أُخرى من فنان ما زال حيًّا. لوحاتي أَنا أُغامر بها، وأَسأَلُك أَن تغامر معي بها وتعرضها على الشارين، فربَّما…”.
ولم يُنْهِ الرسالة لأَنه أَنهى حياتَه بطلْقة من مسدَّسه على خاصرته، تُوُفِّيَ بعدها ببضع ساعات، ووجدها تِيُو في جيبه بعد وفاته.
كلام الصُوَر
– الشقيقان فنسنت وتِيُو
- رسالته دومًا مصحوبة برسوم
- رسالته في 15 أُكتوبر 1881
- من رسائله الأَخيرة
- طبعة قديمة لكتاب الرسائل