هنري زغيب
في الحلقة الأُولى من هذه الثُلاثية مـرَّ كيف أَمضى ڤان غوخ مطالع حياته في عزلة وتعاسة وخيبات عاطفية، فانصرف إِلى الرسم واجدًا فيه ملاذًا لشخصيته المضطربة التي انتهت به إِلى الانتحار.
ما الذي كان من نتاجه الكثيف في عمره القصير؟
من الطبيعة إِلى النتاج الغزير
سنة 1888 انتقل ڤان غوخ إِلى مدينة آرْلْ (جنوبيّ فرنسا) وكان قبلئذٍ بقليل بدأَ يُنتج أَجمل روائعه. فبين 1886 و1888 تركَّز أُسلوبه ما بعد الانطباعي، وانتقل بأَلوانه من باهتة رتيبة إِلى زاهية، وتمكَّن من أُسلوبه التنقيطي المتحرك. في هذا المنحى رسم جوليان تانغي (1887) ووضع رسمه الذاتي (1888) أَمام الـمَلْوَن (لوح الأَلوان).
لعلَّ فترة إِقامته في آرْلْ كانت الأَكثر خصوبة في إِنتاجه فترتئذٍ، مُشْبَعًا بشمس الجنوب، مرتاحًا إِلى الرسم منسرحًا في حضن الطبيعة. رسم أَشجار الزيتون، دوار الشمس، حقول القمح، المقاهي، وروائعَ شبيهةً في تلك الحقبة الخصيبة.
إِبَّان تلك الفترة في آرْلْ، وافاه الرسام الفرنسي پول غوغان (1848 – 1903)، وسكَن معه في البيت الأَصفر. رسَما معًا في الطبيعة، مع أَن تلك الـ”مَعًا” أَصابها أَكثر من شَرخٍ بسبب مزاج ڤان غوخ الغريب المتقلِّب، وتدهوُر صحته الجسدية والنفسية وانحصار مورده المالي بشقيقه تِيُو (1857 – 1891) حتى أَنه كان يمضي أَيامًا بائسة من الجوع بدون طعام حتى تأْتيه إِعانة تيو.
من الشجار إِلى المأْوى
نحو نهاية 1888 كان شِجار بين غوغان وڤان غوخ أَدَّى إِلى انهيار هذا الأَخير في لحظة غضَب مجنون وشَطْب القسم الأَسفل من أُذنه اليسرى بشفْرة حادَّة، ما أَدَّى بغوغان إِلى مغادرة آرْلْ والعودة إِلى پاريس، وبڤان غوخ إِلى تلَقّي معالجة طبية لدى مصحٍّ للأَمراض النفسية والعقلية (في “سان ريمي دو پروڤانس”، قريبًا من آرْلْ) أَمضى فيه 12 شهرًا مُهَلْوِسًا رعبًا من شعوره بإِمكان العودة إِلى فورات الجنون واليأْس والإِحباط والانتحار.
حيال ضآلة المشاهد والمناظر والمواضيع حوله في المأْوى، راح يستمدُّ مواضيعَ يتخيَّلُها من ذاكرته ليرسم، فكانت لوحاتُه فترتئذٍ كئيبةً هادئة ذاتَ مسحةٍ حزينة، عكْسَ ما كانت عليه لوحاته السابقة من زهْو وحركة. ومن تلك الفترة لوحات “الليلة ذات النجوم” (1889)، “حديقة الـمَأْوى” (1889)، “أَشجار الزيتون” (مجموعة من 15 لوحة – 1889)، تلال “الأَلــپــيَّـات” (1990)، “أَشجار السَرو” (1890)، وجوه أَطباء، تآليف تشكيلية من وحي رامبرانت ودولاكْرْوَى ومـيــيِّـــيــه (1890).
منى اليأْس إِلى الانتحار
اشتاق ڤِنْسِنْت إِلى شقيقه الأَصغر تِيُو فانتقل من جنوب فرنسا إِلى پاريس في أَيار/مايو 1890. لكنه عاد فانتقل للسكَن لدى الطبيب الفنان پول فردينان غاشيه في قرية أُوڤير سُورْوَاز حيث البيئة الطبيعية شجَّعَتْهُ على الرسم بكثرةٍ فوضع لوحات عن حقول الذرة والأَكواخ ووادي النهر وكنيسة القرية.
لكنه، بالرغم من نتاجه الغزير، أَغرَق أَكثر فأَكثر في الغَمِّ واليأْس والإِحباط والوحدة والعزلة، فأَطلق النار على بطنه لسببٍ لا يزال مجهولًا، وتُوفي في 29 تموز/يوليو 1890 ولَمَّا يُكملْ ربيعَه السابع والثلاثين.
من الوفاة مغمورًا إِلى الانتشار مشهورًا
بعد وفاته بفترة، وبدْء انتشار أَعماله بفضْل جُوانَّا زوجة شقيقه تِيُو، أَخذَت لوحاته تلْفت بأُسلوبها ودقَّة ريشتها، حتى بلَغ لاحقًا أَن اعتبره النقادُ “أَهمَّ رسَّام أَلماني في جميع العصور”، خصوصًا في أَعمال السنوات الثلاث الأَخيرة من حياته. مع أَنه لم يَــبِعْ في حياته سوى لوحة واحدة وكان مجهولًا حتى وفاته، كان لأَعماله تأْثيرٌ على الرسم الحديث في مطالع القرن العشرين.
وفي غياب تأْريخٍ دقيقٍ موثَّقٍ لأَعماله، شابَ بعضَها لغْطٌ لاحقٌ في منتصف القرن الماضي، كاعتبار إِحدى أَهم لوحاته “غربان فوق حقول القمح” (1890) آخرَ لوحةٍ رسمَها قبل انتحاره وأَنَّ فيها ملامحَ احتضاره قبل نفَسه الأَخير، فيما هي ليست كذلك بل هو أَنجزَها في أَحد الأَسابيع الأَخيرة من حياته، وأَنجزَ بعدها أَعمالًا لاحقة.
اليوم تُعتبَر لوحات ڤان غوخ بين أَغلى اللوحات في العالم وفْق شركات البَيع بالمزاد. وهو تفرَّد فيها بأَلوانه الوَضَّاءة ورُقشاته الخاصة، ولو في لوحات بسيطة المواضيع كــ”صحن البصَل” (1889)، و”جُذُور الشجرة” (1890) أَو “المقهى الليلي” (1888)، لكنَّ أَعماله لا يُمكن اختزالُها بانعكاس نفسيَّته فقط، مع أَنَّ معظمَها هو كذلك، إِنما تلْزم مقاربتها خارج حالته النفسية أَو الجسدية. صحيح أَنَّ ظروف حياته كانت بائسة مضطربة، لكنه عَلَا فوق شخصية الفنان المجنون ليحلِّق في فضاء الفنان المشغول بفَنه انغماسًا كليًّا، والمدمن على الريشة في إِقبالٍ لا يَني. من هنا أَن أُسطورة هالته تتعدَّى زمانها وأَمكنة ولادة لوحاته، لتستقرَّ في الذاكرة الجماعية العالمية صورةَ فنانٍ خالدٍ ما زالت أَعمالُه نابضةً كأَنْ حديثة الولادة.
من كشف المعارض إِلى اكتشاف الرسائل
بعد وفاته أُقيمت معارضُ استعاديةٌ لأَعماله في پاريس وبروكسيل ولاهاي وأَنڤيرسْ (بلجيكا)، وأَخذَت شهرتُه تتمدَّد طيلة القرن العشرين والقرن الحالي، مع ما رافقها تَوَازيًا من انتشار ملامحَ بيِّنةٍ بين حالات البؤْس والعزلة وشخصيته المتأَلِّـمة طيلة حقبات حياته.
ومع صُدُور رسائله إِلى شقيقه تِيُو (نحو 650 رسالة) سنة 1914 في پاريس، اتضحَت الصورة عنه أَكثر فأَكثر. وكان لتلك الرسائل، وما فيها من كتابة أَدبية عالية، أَثرٌ كبيرٌ كذلك في اتساع شُهرة ڤان غوخ ريشة وقَلمًا معًا.
ماذا في تلك الرسائل؟
كيف تظهر فيها آراء ڤان غوخ الخلَّاقة في الفن والأَدب؟
الجواب في الحلقة الثالثة والأَخيرة من هذه الثلاثية.
كلام الصور:
– “أَشجار الزيتون” (1889)
- “حقل القمح وأَشجار السرو” (1889)
- “حديقة المأْوى” (1889)
- “تلال الأَلبيَّات” (1889)
- منظر بتأْثير من رامبرانتْ (1890)