هنري زغيب
غريبٌ هذا القدَرُ القاسي: رسَّامٌ تباع لوحاتُهُ اليوم بأَغلى الأَسعار في العالم، وتَتَهافت عليها المتاحفُ، ويَتَسابق عليها في الـمَزادات تُـجَّارُ اللوحات وهواةُ اقتنائها، غريبٌ أَن يكون مات صاحبها فقْرًا ويأْسًا وعوَزًا في وحدة وغُربة وتعاسة، وأَن لا يكون باع كل حياته إِلَّا… لوحةً واحدةً سعى له بها “تِيُو“، شقيقُه الخبيرُ بتجارة اللوحات.
تلك هي حالة ڤنسنت ڤان غوخ (1853 – 1890).
فاشل في التجارة
علامة لوحاته أَنها تسجيلٌ شبهُ يومي لمشاهدَ قرويةٍ أَو مَدينيةٍ عاينَها أَو عاناها، راكم فيه سجلًّا كاملًا لحقبة زالت اليوم لكنها باقيةٌ نابضةً في لوحاتٍ له، غالبًا ما كانت يومياتهِ في حيثما يكون، ما ساعد على تشكيل البيئة التي عاشها وأَنتج فيها.
وَرث حبَّ الرسم والطبيعة من أُمه آنَّا كورنيليا، فكان في طفولته يَشرد في الطبيعة ويَسيح في مناظرها. سوى أَن شروده انتهى تشرُّدًا حين ضاقت موارد العائلة في مدينة مولده (زانْدِرْتْ: جنوبي هولندا) فاضطُر، وهو في الخامسة عشرة، إِلى ترك المدرسة، وبعد خمس سنواتٍ غادر البلاد للعمل في تجارة اللوحات الفنية (لندن بين 1873 و1875، وپاريس حتى 1876). فشِلَ في هذه التجارة فاستُغْنِيَ عنه، لكنه اكتَسب بيئة تشكيلية نمَّت لديه حسَّه الفني، كما نمَّت لديه حسَّ الأَدب الإِنكليزي قراءاتُهُ تشارلز ديكنز (1812 – 1870) وجورج إِليوت (الاسم الأَدبي لـماري آنّا إيڤانس 1819 – 1880).
الصدمة العاطفية الأُولى
في لندن كانت صدمته الأُولى حين صدَّته أُوجيني (ابنة سيدة ثرية كان يسكن غرفةً من بيتها)، رافضةً عرضَه الزواج منها، فسقط في انهيار عصبيّ، وغادر عالم الأَدب والفن منصرفًا إلى التقوى والعمل الرعَويّ، ثم غادر إلى جنوب بلجيكا يزاول التدريس في ناحية بائسة فقيرة، ساكنًا في كوخ حقير لم توافق عليه الجهة الطقسية هناك فاختلف معها وغادر متبرِّمًا غاضبًا.
بانهياره مجددًا في حالة إحباط، قرَّر في خريف 1880 أَن يتركز في العاصمة بروكسيل وينصرف إِلى الرسم، مؤْمنًا بأَن ريشته “ستحمل العزاء إِلى الإِنسانية”، كما ورد في إِحدى رسائله: “أُريد إعطاء البؤَساء رسالةً أَخوية. وحين يرون توقيعي على لوحتي يعرفون أَنني واحد منهم”.
هذا المزاج المتقلّب لديه سبَّب له طيلة حياته فشلًا صادمًا في علاقاته مع النساء، ولَّدَ في قلبه حزنًا عميقًا ونُزوعًا إِلى الوحدة، مع أَنه كان قال يومًا: “لا يمكنني أَن أَعيش بدون حُب”. لذا كان رومانسيَّ الطبع، مؤْمنًا بأَن “الحب حضورٌ ضروري وحقيقي وعميق”. ولم يتوانَ عن نقل خيباته العاطفية إِلى لوحاته، في علاقاته النسائية المتعدّدة السيئة مع كي ڤوسْتْريكِر، والعاهرة سيانّ، وأُوغوستينا سيغاتوري صاحبة المطعم في پاريس.
العزاء: الفن والطبيعة
لم يجد عزاء لـحزنه سوى حب الطبيعة والانصراف إلى الفن ومعونة شقيقه الأَصغر تِيُو (تيودورُس 1857 – 1891). وكان تيو (وهو تاجر لوحات في پاريس) داعمَه الوحيد ليكمل حياته (القصيرة) منصرفًا إِلى الرسم بدون أَيِّ عمل آخر ذي مردود ماليّ. وفي رسائل ڤنسنت الكثيرة إلى تيو (نحو 650 بإمضاء “الـمُحب ڤنسنت”) سِجلٌّ شبه يومي لحياته وشؤُونها وأَرائه في الحب والحياة وشجونه وأُسلُوبه التقْنيّ في الرسم.
تيو أَدخل شقيقه إِلى الوسط الفني في پاريس، وأَمَّن له مدَدًا ماليًّا يُغْنيه عن أَيِّ عمل آخر سوى الرسم، فيما عائلته كانت تخلَّت عنه. وفي پاريس اكتشف ڤنسنت للمرة الأُولى الفن الانطباعي وأَحب براعة النور والظل في أَعمال الانطباعيين. والتقى عددًا من أَعلامهم: هنري تولوز لوتريك (1864 – 1901)، پول غوغان (1848 – 1903)، وعرَّفه تيو بآخرين مثل كميل پــيسارُّو (1830 – 1903) وجورج سورا (1859 – 1891).
ولكن… مع هذا الاكتشاف المصيري لم يكُن باقيًا لڤان غوخ سوى 10 سنوات من العمر (1880-1890).
النضج فالأسلوب الخاص
سنة 1881 راح يدرس الرسم فترة قصيرة في أَكاديميا بروكسيل، لكنه عاد في السنة ذاتها إِلى أَرضه الأُم، شاعرًا بحاجته إِلى التعمُّق أَكثر لدى فنانين ذوي خبرة ناضجة، فعمِلَ فترة لدى زوج نسيبته آريــيـت: الرسام الهولندي أَنطون موڤ (1838 – 1888)، تركيزًا على الرسم الزيتي والمائي، حتى إِذا امتلكَ تقْنيتهُما انتقل إِلى مدينة دْرِنْتِه (ناحية نائية في شمال هولندا) كي يعمل وحده في الطبيعة.
في تلك الفترة وما بعدها، تَمَكَّن من ريشته، وأَنتج عددًا كبيرًا من لوحات الطبيعة الصامتة والمناظر الطبيعية والوجوه. وفي تلك الحقبة رسم بعض أَبرز روائعه: “الحائك” (1884)، “آكلو البطاطا” (1885)، إلى مجموعة أَعمال عن حياة الفلاحين في الأَرياف.
لكن نضجه الفني سيظهر لاحقًا في فرنسا ويُنتج بغزارة.
إِنما… لن يتبقى له سوى عشْر سنوات من العُمر.
ماذا جرى في پاريس؟
هذا ما ستحمله الحلقة الثانية من هذه الثلاثية.
كلام الصُوَر
– “الحائك” (1884)
- “آكلو البطاطا” (1885)
- “أُغوستينا سيغاتوري” (1887)
- فان غوخ الصورة والريشة (1889)
- “العاهرة سيَان” (1882)