هنري زغيب
ذكَرتُ في الحلقة الأُولى من هذا المقال ما كان من ظروف رافَقَت لوحةَ ليوناردو داڤِنتْشي “المرأَة والنمْس” (إِحدى أَجمل اللوحات في تاريخ الفن قاطبةً)، وصدورَ كتابٍ عنها جديدٍ وضعتْه الكاتبة الأَميركية إِيدِن كولِنْسْوُورْث عنوانه “ما رآهُ النمْس”، صدَرَ الأُسبوع الماضي في نيويورك، وفيه سردَت الكاتبة مراحلَ تنقُّل هذه اللوحة بين إِيطاليا وفرنسا وپولونيا وأَلْمانيا، وغيابَها عن التأْريخ والتوثيق طيلة 250 سنة.
في هذه الحلقة الثانية (والأَخيرة) سلسلةُ تلك المراحل.
إِنه وجهُ سيسيليا
ما زال البحث بين نُقَّاد الفن المكرَّسين يدور حول رمزية النمْس في حضن الصبية: أَهو رمز الوداعة؟ أَم رمز تدجين سيسيليا عشيقَها دوق ميلانو كي يصبح وديعًا بين يديها كالنمْس؟ أَم هو رمز الدوق ذاته لأَن لقبه عصرئذٍ كان “النمْس الأَبيض”؟
تبدأُ القصة نحو 1488 بعد مغادرة داڤِنتشي فلورنسا ووصوله إِلى قصر سْفورزا لدى دوق ميلانو الذي كلَّفه سنة 1490 رسم عشيقته الصُغرى ابنةِ السابعة عشرة سيسيليا غالِّيراني (1473-1536). ولم تهنأْ سيسيليا في القصر بعدما اكتشَفَت علاقتَهُما زوجةُ الدوق بياتريس فطردَت منه سيسيليا التي غادرتْه (1492) حاملةً لوحة داڤنتشي وجنينًا غير شرعي من الدوق. والمفارقة أَن اللوحة لم تكُن بين موجودتها عندما توفيَت بعد 44 سنة بعيدةً ووحيدة. وظلَّت اللوحة نحو 250 سنة مجهولةَ المكان والمقتني، حتى القرن السابع عشر فظهرت في پولونيا لدى هاوية اللوحات النادرة: الأَميرة إِيزابيلَّا تْشارتوريسْكا (1746-1835). وهي كانت من الجمال والتحرُّر أَن أُعجِب بها بنيامين فرنكلن حين التقاها في لندن وطلب منها مقابلة خاصة ليعرض عليها آلة هارمونيكا زجاجية من اختراعه.
اللوحة هدية لإِيزابيلَّا
سنة 1796 جمعَت الأَميرة إيزابيلَّا ما لديها من روائع فنية وعرضتْها في مدينة پوْواڤـي (شرقيَّ پولونيا) وهي المجموعة التي ستشكّل لاحقًا (وحاليًّا) “متحف تشارْتوريسْكي” في كراكوڤ ليكون أَول متحف من نوعه في پولونيا (تم افتتاحه رسميًّا سنة 1878).
بعد سنتين (1798) أَراد ابنُها آدم أَن يقدم لها هدية ثمينة ترضي حبَّها اقتناءَ اللوحات النادرة، فاشترى من إِيطاليا لوحة داڤنتشي “المرأَة والنمْس”. وعند وقوع الثورة ضد الأَمبراطورية الروسية، طلبت إِيزابيلَّا (وكانت في الرابعة والثمانين) نزْع اللوحة من مجموعتها في پوْواڤـي ونقْلَها إِلى قصر الأُسرة في مدينة سيينْياڤا (جنوب شرق پولونيا).
بعد فشل الثورة في تشرين الثاني/نوڤمبر (1831) وسيطرة روسيا على پولونيا وضمِّها إِلى الأَمبراطورية الروسية، نُفيَ آدم تشارْتوريسْكي لكونه من الثوار، فانتقل إِلى لندن فترة وجيزة ثم استقرَّ في پاريس شاريًا فندق “لامبير” وخبَّأَ فيه لوحة “المرأَة والنمْس”. وعند وفاته عن 91 عامًا سنة 1861، ورثه ابنُه ڤواديسواڤ الذي، عند اندلاع الحرب الفرنسية الپروسية، هرّب اللوحة إِلى دْرِسْدِن (عاصمة مقاطعة ساكسونيا الأَلمانية). وهناك، تنبَّه لها سنة 1920 مؤَرخ الفنون الأَلماني هانز پوس وحاول تأْخير إِعادتها إِلى كراكوڤ.
هتلر: تحطيم التراث البولوني
سنة 1939 طلب هتلر من پوس جمْعَ الأَعمال الفنية الپولونية وتهيئَتها لتأْسيس “متحف الفوْهرر”. وقتها كانت اللوحة آلَت إِلى الحفيد أُغسطين تشارتوريسْكي فاقترحَت والدته ماريَّا عودة الأُسرة، ومعها اللوحة، إِلى سيينياڤا (حيث كانت إِيزابيلَّا خبَأَتْها قبل نحو قرن). لكنَّ مدبرة المنزل صوفيا شميت قرَّرت البقاء في دْرِسْدِن، غير مدركة أَن اللوحة مخبَّأَة سرِّيًّا في البيت مع سائر اللوحات الثمينة.
وحين خيَّمَت فرقة أَلمانية نازية ثلاثة أَيام في المدينة، اكتشفت صوفيا خلْع أَحد الأَبواب. واستطلعَتْ فوجدَت أَن السارقين استولوا على بعض الأَغراض، وتركوا اللوحة جانبًا إِلى الجدار، فأَدخلتها إِلى البيت وخاطت لها بيتًا من قماش المخدات لحفظها.
في تلك الأَثناء عيَّن هتلر ضابطه الآخَر هانز فرانك لجمع تلك الثروات الفنية. وحين وجد الغستابو الأَلماني أَن اللوحة في عهدة أُغسطين ووالدته ماريا الأَميرة ذات الهوية الملكية البوربونية، سمح للأَسرة الانتقال إِلى أسبانيا. وبين أَن يحتفظ بها فرانك لمجموعة هتلر الشخصية أَو لمجموعة في النمسا، قرر إِرسالها إِلى برلين لحفظها من الخطَر، وسنة 1941 نقَلَها إلى مقر القصر الملكي المحتلّ في كراكوڤ وعلَّقها في صدر مكتبه. وبصفته حاكم پولونيا المحتلة أَلمانيًّا، أَطلق أَعمالًا تدميرية تمحو ثقافة پولونيا، فأَمر بإِتلاف المكتبات العامة والمجموعات الفنية في كامل البلاد المحتلَّة، وأَحرق 75 أَلف مخطوطة، و25 أَلف خارطة، و90 أَلف كتاب، وجميعها ثروة پولونيا الثقافية. كما أَمرَ بتغيير أَسماء الشوارع وتفجير التماثيل واعتقال أَساتذة جامعة كراكوڤ وإِعدامهم جميعًا في معسكرات الاعتقال.
إِنقاذ اللوحة من دكتاتورية هتلر
في ربيع 1944، مع تقدُّم القوات الروسية في شرقي پولونيا، شعر فرانك بالخطر فأَمر بإِفراغ القصر الملكي ونقْل اللوحة إِلى مقرِّه الصيفي في باڤاريا. واستدعى المدير العام لمتاحف باڤاريا فنصحه بنقْل اللوحة إِلى مكان سرّيّ لقيمتها الفنية العالية. لكن هتلر، شاعرًا بدُنُوّ نهايته، أَمر بإِتلاف كلِّ ما على أَراضي الرايخ المحتلة كي لا يبقى بعده أَيُّ عملٍ فيها ذي قيمة.
في 4 أَيار/مايو اعتُقل فرنك وحُوكِم في نورمبرغ بتهمة اقتراف جرائم حرب ضد الإِنسانية وحُكِم بالإِعدام. نُقِلت اللوحة إِلى مخزنٍ موقَّت في ميونيخ ثم إِلى كراكوڤ بعدما باتت پولونيا تحت الحكم الشيوعي. وسنة 1949، نُقِلَت اللوحة إِلى متحف كراكوڤ الوطني ثم إِلى وارسو ثم إلى متحف پوشكين في موسكو.
عودة اللوحة سالمة إِلى بيتها
تنقلت اللوحة إِلى متاحف عالمية: وارسو (1952)، موسكو (1972)، واشنطن (1991 و1992)، مالمو – السويد (1993 و1994)، روما وميلانو (1998)، فلورنسا (1999). وكانت محكمة پولونية سنة 1991 اعترفَت بأَحقية آدم تشارتوريسْكي في وراثة مقتنيات العائلة والاحتفاظ باللوحة رسميًّا لدى متحف تشارتوريسْكي في كراكوڤ، كـ”أَحد أَغلى الكُنوز الوطنية في پولونيا”.
سنة 2010 أُقفل المتحف لإِجراء عمليات التصليح والتجديد والترميم، فنُقِلَت اللوحة موَقَّتًا إِلى متحف كراكوڤ الوطني، لتعود نهائيًّا إِلى بيتها الأَصلي مع عودة افتتاح متحف تشارتوريسْكي في 19 كانون الأَول/ديسمبر 2019.
كلام الصُوَر:
– مؤَلِّفة الكتاب: إِيدِن كولِنْسْوُورْث
- تفصيل وجه سيسيليا في اللوحة
- الزوجة بياتريس طاردة سيسيليا من القصر
- الأَميرة إِيزابيلَّا تْشارتوريسْكا
- هانز فرانك: الـمحتل النازيّ مخرِّب التراث