هنري زغيب
كأَنما قدَرُ العمل الخالد أَلَّا يزولَ من ذاكرة الزمن مهما طال غيابُه عن واجهة الحاضر أَو عن تاريخ ولادته. هذا ما حصل للمبدع ليوناردو داڤِنتشي (1452-1519) في لوحته الخالدة “المرأَة والنمس” (نحو 1490).
وهي ضاعت في مجاهل الأَحداث طيلة 250 سنة قبل أَن يتمَّ اكتشافُها من جديد، كما سيظهر من مراحل هذا المقال.
السير عكس تقاليد النهضة
المعروف عن ليوناردو أَنه كان شَغوفًا بالنساء، يُلْهِمْنَه فيُبدع متفنِّنًا في تقنيةِ رسْمِهِنّ. لكنه لم يرسُم في حياته من النساء إِلَّا أَربعًا. وهنا فرادَتُه: فعصرئذٍ، زمنَ النهضة الإِيطالية (انطلقَت من فْلورنسا في القرن الخامس عشر ومنها امتدَّت إِلى كل أُوروپـا) كان فنانو النهضة يرسُمون الرجال فقط دون النساء، وإِن رَسَموهنَّ ففي شكل هامشيّ أَو ثانويّ. جاء ليوناردو فأَبدَع بتخصيص لوحات مستقلَّة للمرأَة، لا متأَنِّيًا برسْم وجهها فقط ناقلًا ملامحَه بشكل مسطَّح، بل متأَنِّقًا بالدخول إِلى ملامح شخصيتها وطبعها ومزاجها. رسَمَها كينونةً مستقلَّة مشعَّة لا مجرَّد وجه ذي جمال بارد. لم يكن جمالُها وحده هدفَه بل التعابير في فكرها، في قسَمات وجهها، في حدقة عينيها، في حركة جسدها، كما كتبَ في مخطوطته “بحث في الرسم” موضحًا أَن “رسم المرأَة لا يكون في الاكتفاء بإِبراز قَسَمات الوجه بل في مسْح ظلال شفيفة على الوجه فيبدو أَكثر نُطقًا وأُنوثة”.
ليست جَمالًا وحسْب
بين لوحات النساء الأَربع، لوحةُ “المرأَة والنِمس” المعتبَرَة اليوم إِحدى أَجمل اللوحات في تاريخ الفن الغربي. رسَمها ليوناردو للصبيَّة سيسيليا غالّيراني (1473-1536)، الجميلة الموهوبة المثقَّفة أَدبًا وموسيقًى، عشيقة لودوڤـيكو سْفورْزا دوق ميلانو. رسمَ في حضنها نِمْسًا أَبيض، رمز الوداعة في عالم الحيوان (وقيل إِن “النمْس” عهدئذٍ كان أَحد أَلقاب الدوق). وفي احتضانها النِمْسَ الوديع رأَى مؤَرِّخو النهضة الإِيطالية رمزَ تدجينها لودڤـيكو بشخصيَّتها، وتأْثيرها عليه ليكون معها وديعًا كما وداعة النِمْس في حضنها. وتأَنّى ليوناردو بإِبراز النُور العميق في عينَيها، وجعلها إِلى الْتفاتةٍ جانبية تُبرز أُنوثتَها التي أَغوَت رجالًا آخرين غير لودوڤيكو. كان لسيسيليا تأْثير ثقافي وأَدبي في بلاط ميلانو، وشبَّهها معاصروها بأَجمل سيدات العصور القديمة.
فرادةُ ليوناردو اعتبارُهُ أَن المرأَة ليست جمالًا وحسْب. وهي نِظرةٌ حيالَ النساء وجد فيها معاصروه تجديفًا على القيَم الْكانت سائدةً في أَيامه. لكنه لم يحفلْ. واصل رسمه روائعَ غيَّرت كل مفهوم الرسم الأُنثوي. ووَسَمَت ريشتُه العبقريةُ هالةَ امرأَة خالدة عبر العصور، رسَمَها لُغزًا لا يُدركه رجُل، ناعمًا، لذيذًا، شهوانيًّا، مُحيِّرًا، مُراوغًا، ملتبِسًا، ساخرًا. لم يتوقف عند حدود جسدها وتفاصيله بل أَرسل خياله إِلى دواخلها فرسَم روحها ومزاجها وشخصيتها وبلغَ تفكيرَها الأَعمق في أَصفى انكفائه استبْطانًا نفسيًّا داخليًّا عميقًا.
سوى أَن هذه اللوحة الخالدة غرقَت في الضياع والنسيان طيلة 250 سنة، حتى عادت فظهرت بفضل مدبِّرة منزل أُميَّة عادية حافظَت عليها عفويًّا وفطريًّا ومصادفَةً دون أَن تعرف، يومئذٍ، أَهميتَها التاريخية والفنية.
رحلاتُ التيه
حكاية هذه اللوحة وفقدانها وتنقُّلها من يد إِلى يدٍ ومن مدينة إِلى أُخْرى، نسجَتْها بأُسلوب روائي تاريخي موفَّق الكاتبةُ الأَميركية إِيدِن كولينْسْوُورْث (م.1952) في كتابها الجديد “ما رآه النمْس” الذي صدر الأُسبوع الماضي من هذا الشهر (حزيران/يونيو 2022) لدى منشورات دوبلْداي (نيويورك) في 272 صفحة حجمًا كبيرًا، وله عنوان ثانوي على الغلاف: “الرحلة المدهشة لأَكثر لوحات ليوناردو دا ڤِنتشي غُمُوضًا”. فاللافت أَن المرأَة والنمْس ينظران في اتجاه واحد، فماذا رأَيَا معًا؟
فرادةُ الكاتبة – في سردها بيوغرافيا هذه اللوحة الخالدة – أَنها لاحقَت مسيرة اللوحة عبر 500 سنة، وكيف ضاعت نحو 250 سنة إِلى أَن ظهرت مجدَّدًا في القرن التاسع عشر لدى مجموعة الكاتبة وهاوية جمْع اللوحات النادرة الأَميرة الپولونية إيزابيلَّا تْسارْتوريسْكي (1746-1835). وإِذ أَمَر الضابط النازي هانز فرَنك بمصادرتِها إِبان الحرب العالمية الثانية، هُرِّبَت إِلى باڤاريا سنة 1945 وأُعيدَت إِلى متحف تْسارْتوريسْكي في كراكوڤ (پولونيا).
وتدخَّلت الكاتبة في تفاصيلَ تقنيةٍ حول فن ترميم اللوحات وطُرُق المحافظة عليها، وتبنَّت دراسة تحليلية تقْنية متطوِّرة سنة 2014 بيَّنَتْ أَن رسْم تلك اللوحة مرَّ في ثلاث مراحل: اثنتان للصبيَّة وحدها، وأُضيف إِليها النمْس ما سوى في المرحلة الأَخيرة.
خلفيات اللوحة
صحيح أَن الكاتبة تدخَّلَت في أُمور جانبية غير مسيرة اللوحة وتنقُلاتها (بينها الإِضاءة على شذوذ زوجة الدوق وغيرتها الفائضة من سيسيليا)، لكنَّ أَهمية الكتاب أَنه كشف قصة تاريخية حقيقية مدعمة بالوثائق، فيها الكثير من جوانب خفية تجري داخل قصور أُوروپا وخلاعات أَهلها رجالًا ونساءً. وتروي الكاتبة دوافع صادمة وراء طلب دوق ميلانو لودوڤـيكو سْفورْزا أَن تجلس أَصغرُ عشيقاته: حبيبتُه الصبية سيسيليا (12 سنة) أَمام ليوناردو كي يرسمها، موقنًا أَن ليوناردو، بذكائه وحدسه، لن يطْلع بلوحة عن جمال حبيبته وحسْب، بل لوحة تمجد مكانة منزلته “الدوقية”.
وبالرغم من أَهمية اللوحة الفريدة فنيًّا في زمانها، ضاع تأْريخ مسيرتها نحو 250 سنة بعد وفاة سيسيليا، فراحت تنتقل من شخص إِلى آخر، من النبيل الپولوني الذي كان يذكر إِعجاب بنيامين فرنكلين باللوحة، إِلى منفاها الپاريسي هربًا من الحرب السوڤياتية الپولونية، فعودتها مجدَّدًا إِلى پولونيا في الحرب العالمية الثانية حين سبقت الاجتياح الأَلماني فخبَّأَتْها خلف جدار قرميدي سميك مدبرةُ منزل تحدَّت “الرايخ الثالث” هتلر حين أَمر بمصادرة الأَعمال الفنية كي تكون في “مجموعة ممتلكات الفوهرر”.
ما ظُروفُ تنقُّل اللوحة بين الخطر والخطر؟
هذا ما سأُفصِّله في الحلقة المقبلة من هذا المقال.
كلام الصوَر:
- الكاتبة الأَميركية إِيدِن كولينْسْوُورْث
- “المرأَة والنمس”: اللوحة التائهة
- إِيزابيلّا تْسارْتوريسْكي: حاضنةُ اللوحة
- ليوناردو: لُغز النمْس في حضن المرأَة
- غلاف الكتاب: “ما رآه النمْس”