هنري زغيب
هذه القصة (مأْخوذةً من “سفْر دانيال” – الإِصحاح الثالث عشر في “الكتاب المقدَّس”) تناوَلَهَا رسَّامون كثيرون، معظمُهم من عصر النهضة الإِيطالية.
في الحلقة الأُولى من هذه السلسلة، مهَّدتُ لقصة سوزانا والشيخَين القاضيَين اللذين اشتَهَيَاها وحاولا اغتصابها وهي تستحمُّ، فصدَّتْهما فاتهَّماها زورًا بخيانة زوجها مع عشيقها الشاب، وأَنقذَها الشاب دانيال من الموت.
في الحلقة الثانية نشرتُ عن اللوحة التي وضعها الرسام الإِيطالي لورنزو لوتُّو.
في الحلقة الثالثة نشرتُ عن اللوحة التي وضعَتْها الرسامة الإِيطالية أَرتيميسا جينْتيليسْكي.
في الحلقة الرابعة نشرتُ عن اللوحة التي وضعها الرسام الإِيطالي جيوزيبي كياري.
في هذه الحلقة الخامسة والأَخيرة قصةُ “سوزانا والشيخَين” كما تخيَّلها الرسام الهولندي رامبرانت (1606-1669)، أَحد أَبرز أَعلام المرحلة الباروكية.
من هو؟
وُلد في ليدن (هولندا). انتسب في الرابعة عشرة إلى جامعة ليدن لكن الحياة الأَكاديمية لم تلائم مزاجه، فغادرها وراح يدرس الرسم على رسام محلي تخلَّى عنه بعد ثلاث سنوات وانتقل إَلى أَمستردام يدرس مع بيتر لاتْسْمان، لكنه عاد إِلى ليدن يكمل وحده تمرُّسه بالرسم مؤَسسًا محترفًا مع زميله يان ليفِنْزْ. وبدأَ يشتهر رسام مواضيع تاريخية (لعدم تكليف الكنيسة البروتستانتية الرسامين وضع لوحات دينية، عكس ما كانت تفعل الكنيسة الكاثوليكية).
لم يَنْقَدْ إِلى موجةٍ درجَت عهدئذ بسفر الرسامين الجدد إِلى إِيطاليا لدراسة الرسم، بل فضَّل البقاء وتَعَلُّمَ ما يتوفَّر له في بلاده الأُم، متأَثِّرًا بأَعمال الرائد الإِيطالي كارافادْجِيُو، خصوصًا في رسم الوجوه.
عاد مجدَّدًا إِلى أَمستردام، حيث يكثر التجَّار من كل العالم، فسكن لدى تاجر لوحات والتقى بنسيبته ساسْكِيا وتزوَّجها سنة 1634. أَخذ أَغنياء المدينة يُوصُونه على لوحات، لكنه كان مبذّرًا فلم يوفِّر ما يكفيه لإِعالة أُسرته.
سنة 1642 توفيَت زوجنه شابة تاركة له طفلًا وحيدًا. استعان بمربية وعدَها بالزواج لكنه تزوج امرأَة أُخرى ما أَثار حفيظة الأُولى فادَّعَت عليه. وسنة 1650 وقعَت أَمستردام في ضائقة اقتصادية حادّة، وأَخذ المرابون يطالبون رامبرانت بدفع الباقي من ثمن بيته. فباع مقتنياته بالمزاد العلني وسكَن بيتًا متواضعًا يرسم فيه، ويعيش حياة تقتير حتى وفاته في وضع صحي سيِّئ سنة 1669 عن 63 عامًا.
هو و”سوزانَّا”
إِقدامه على رسم “سوزانا والشيخين”، كموضوع ديني، كان غريبًا في هولندا عصرئذٍ بسبب صعود البروتستانتية وانحسار التقاليد الكاثوليكية. لكن رامبرانت بقي يتناول مواضيع من الكتاب المقدس.
وضع رامبرانت لوحته (1647) ناسخًا لوحة أُستاذه لاتْسْمان. لكنه تمايز عنه في فوارق واضحة. فالوجوه في لوحة رامبرانت مملوءَة حياةً، وشيخٌ يُمسك بطرف ثوب سوزانَّا فيما تحاول الهرب. وكان أَول من اشتراها هاوي اللوحات التاجر أَدريان بانْكْ بمبلغ 500 فلورينة.
سنة 2015 اكتشف أَحد الخبراء الاختصاصيين أَن الرسام جُوشُوى رينولدز عَدَّل في اللوحة حين اقتناها لمجموعته عند أَواخر القرن الثامن عشر، فرسَم فوق الأَلوان الأصلية وحذَف منها أَجزاء، وتدخَّل في خلفية اللوحة تاركًا منها الوجوه كما رسمها رامبرانت ومكان حصول الحادثة.
العودة إِلى أَصل القصة
فيما لوحات الرسامين الآخرين أَظهرت الشهوة والطابع الجنسي، تعمَّد رامبرانت إِظهار طابع التعدِّي البشع والتحرُّش الدنيْء، وجعل سوزانَّا تنظُر إِلى من يَرى اللوحة كأَنها تستنجد به لإِنقاذها، كأَنه حاضر تلك اللحظة وليس قارئًا اللوحة حياديًا كما في لوحات سائر الرسامين. وبذلك اقترب رامبرانت من القصة الأَساسية أَكثر منه إِرضاءَ من وصَّاه على اللوحة. وتبدو في بعض خطوط الصورة ملامح شرقية، أَبرزها القصر البابلي الشكل، واكتسب رامبرانت ذلك من كتُبٍ كان تجار أَتوا بها من آسيا وفيها رسوم وصور من تلك الأَماكن الشرقية.
ومن براعة رامبرانت أَنه رسم سوزانَّا في نور واضح يبرز عُريها، بينما أَبقى ذينَكَ الشيخين في بعض الظل. وهو اختار اللحظة التي فيها يكلِّم الشيخ سوزانَّا، وهي تسمع إِنما لا ترى مُهاجِمَيْها، ويصعقُها ما تسمعه منهما. لذا أَخفَت ثديها الأَيسر بيُسراها، ووضعت يُمناها على ساقها. من هنا أَن انتباه الناظر إِلى اللوحة يتركَّز أَوَّلًا وأَساسًا على الصبيَّة، ما يؤَكد على جوهر القصة ومحورها حالةُ سوزانَّا، ما يضفي على اللوحة بُعدًا إِنسانيًّا، لذا أَغرقَ الرسام ذينَك الشيخين في شبه العتمة وبأَلوان قاتمة.
سنة 2003 خضعَت اللوحة لبعض الترميم، بسبب تآكُل أَجزاء قليلة منها في أَطرافها الأَربعة، وتم وضع إِطار خشبي جديد لها، وها هي اليوم ساطعة لدى “متحف اللوحات” في برلين.
كلام الصوَر:
- تفصيل من اللوحة
- رامبرانت: قراءة خاصة لقصة سوزانَّا
- اللوحة كاملةً