في السائد المأْلوف بين الأَنظمة السياسية: “الديموقراطيا” (حكْم الشعب بين أَكثرية تحكُم وأَقلية تعارض) والأَرستُقراطيا (حكْم النخبة التي، أَحيانًا، تغتصب الحكْم وتتَحكَّم بالشعب)، والأُوتُوقراطيا (حكْم الفرد الاستبدادي الـمُعيَّن غير الـمُنتخَب)، التيُوقراطيا (الحكْم الديني مستمَدًّا في مجتمعه من الأُلوهة).
وإِذ تنامت في الغرب “الديموقراطيا الليبرالية” (تَداوُل السُلطة سلْميًّا دوريًّا تلقائيًّا)، وكنا في لبنان، قبل عقود غير بعيدة، ننعم بالحكْم الديموقراطي (“ديموس”: الشعب – “قراطوس”: السلطة) في ليبرالية هادئة (حماية الحقوق ودراية الواجبات)، انهار الحكْم عندنا إِلى بدعةٍ غريبة عجيبة: “الديموقراطيا التوافقية” اخترعها نافذون متسلِّطون خاطوها طرابيشَ على قياس رؤُوسهم، وظلَّت تتناسل انهيارًا وضعفًا وفسادًا وتطويعَ دستور (كلّ مرة “لِـمرة واحدة”) وانتهاكَ قوانين، وإِطاحةَ نُظُم وأَعراف، حتى وصلْنا أَخيرًا إِلى ما تُمكن تسميتُه نظام “التَفاهُوقراطيا” (حكْم التفاهة وأَهلها)، والعُقْمُوقراطيا (حكْم عقيمي النظر والنظرة والاستباق).
أُبالغ؟ صحيح؟ وهل ترك “بيت بو سياسة” عندنا ما يَشفع بهم حتى تكون في كلامي مبالغة؟
هذا البؤْس الذي يجتاح شعبنا هل هو بسبب شعبنا؟ هذه العُزلة السياسية والدبلوماسية التي وقعَت فيها دولتُنا هل هي من حُسن إِدارة الدولة؟ هذه الفواجع المالية والاقتصادية التي تضرب أَهالينا هل هي من حُسْن استباق السُلطة الأَحداثَ وارتقابها المستقبلَ؟ هذه الموجة الكارثية التي تصفع لبنان بهجرة صفْوة شبابه وموهوبيه وطاقاته وطواقم اختصاصييه هل هي لِما يرى الهاجرون من مستقبل لهم في بلدهم؟
يرى البعض أَنَّ ما نحن فيه هو بسبب الحكَّام الفاشلين اليوم.. مش صحيح.. إِنه تقليدُ شعبنا بإِعادة الفاشلين.. وإِنها كرة الثلج الأَسْود المسموم الذي منذ العقود الأَخيرة يجرف نظامنا الديمقراطي ليجعله على قياس سياسيين تَحكَّموا دينوصوريًّا بنظامنا، و”جعلَكُوه” على قياسهم وقياس نسْلهم من بعدهم، كي تبقى البلاد في قبضة إِقطاعيين سياسيين وارثين موَرِّثين ورَّاثين فلا يرفع الشعب رأْسه أَعلى من النير.
لا عذْرَ لهم تخفيفيًّا في ذلك، ولا رحمةَ تبريريَّةً عليهم، بل هي لعنةٌ سيجلُدهم بها إِلى الأَبد تاريخُ لبنان الحديث.. تلَهَّوا بمصالح حاضرهم مسحوبًا من ماضيهم العشائري فتعامَوا عن مستقبل الشعب ومصيره.. وإِذ السياسةُ إِيجادُ حلولٍ وارتقابٌ وتهيئةٌ وإِعداد، فإِنهم لم “يخترعوا” حلًّا، ولا أَتَوا بأَيِّ ما يَرتقب الآتي من المصير، أَو يُهيِّئُ الغد لشعب يستحق غدًا مثْمرًا، أَو يُعِدُّ المساحة للجيل الجديد.
لهذا هاجر أَبناؤُنا وما زالوا يهاجرون.. سوى أَنهم هجَروا لبنان الدولة ولم يهاجروا من لبنان الوطن.. تخلَّوا عن لبنان السلطة ولم يتخلَّوا عن لبنان أَهلهم وتاريخه الساطع.. وسوف يعودون.. أَكيدًا سوف يعودون.. إِنَّ لنا بينهم – في كل حقل وميدان – مواهبَ وعبقرياتٍ تُهيِّئُهم أَن يتولَّوا الحُكم في لبنان وأَن ينهضوا به من سلطة عفِنة ودولة مكسَّرة إِلى وطن يستعيد ثقة العالم به.
متى يعودون؟ أَكيدًا ليس في حكْم الدينوصوريين، بل حين يزول هؤُلاء من السلطة، وتدول دولتهم الكرتونية المفكَّكة التي لم يعُد أَحدٌ في العالم يهتمُّ لها، وطرَد اللبنانيون المقيمون إِيمانهم بها، وفقَد المهاجرون ثقتهم برجالها.. بلى: سيعودون حين لا يعود الحكْم في لبنان “تَفاهُوقراطيًّا” ولا “عُقْمُوقراطيًّا”.. سيعودون حين يتأَكَّدون أَنَّ التافهين رحلوا، وعقيمي القيادة الفاشلون غابوا، لأَنَّ الحكْم قيادة متماسكة مخْلصة يُنسِّقها حاكم رؤْيوي مخْلص لم يُنتِجْه أَيُّ أَثرٍ من الطبقة الحالية التافهة التي هدَّمت لبنان.
يوتوبيا؟ لا.. أَبدًا.. بل خطٌّ بياني منطقي في مسار التاريخ، يبدأُ بنداء طالع من مرارة التجربة الراهنة.. والنداء يقول: “أَيها اللبنانيون، لا تيأَسوا من طرد الفاسدين الوقحين التافهين.. التغييرُ أَنتم.. المستقبلُ عندكم لدى أَبنائكم هُنا وكلِّ هناك في العالَم، فاطردوا اللصوص من هياكلكم، وانهالوا بالسياط على نسْلهم، وسوف تَرَون أَن السُلطةَ لا يُنقذُها سوى الأَنقياء، والدولةَ لا يبنيها سوى الأَصفياء، وعندها يعود إِلى ذاكرة العالَم لبنانُ الوطن الذي يكون استحقَّ عندها بإِجلالٍ عودةَ العالَم إِليه”.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com