هنري زغيب
انقصَف ولم يُكْمِل ربيعَه التاسعَ والثلاثين (1912-1951) لكنَّ قلمَه لم ينقصف. كأَنه نذَرَ أَن يُكملَ رسالة صاحبه الذي نسَج كلماته من زنبق ونار، من حنانٍ وغضب. لذا تحلُّ سبعونه (1951-2021) كأَنه بيننا، صوتُه الساطعُ بيننا، أَدبُه النابضُ بيننا، لنُوقنَ هانئين بأَن الخلود معقود أَبدًا للأَدب الحي. وفؤَاد سليمان علامة نوَّارةٌ في تراثنا للأَدب الحي، بدأَتْ من صباحات فيع (قريته الهادئة في أَحضان الكورة – شمال لبنان) وتنتهي بعد غروب الشمس في مسويَّات درب القمر (طريق شاعريٌّ تحت بيت حبيبته في فيع).
جامع تموز وأَدون…
لم تَبلُغْهُ صباحَةُ الأَربعين. صرَعَهُ الخنزير البَرِّيُّ قبل أَن يبْلُغَها. نَزَلَتْ من دمه نقطةٌ على الأَرض، سكبَتْ عليها دمعةً عشتروت، نبتَتْ مكانَها شقائقُ حُـمْرٌ تَسَنْبَلَتْ بَيدرًا، وكان ربيع. وفي اليوم الثالث كان عرسٌ في قانا الأَدب. نـهضَ تموز من سنبلةٍ حمراء، مَشَحَ نقطةَ الحبر قطرةَ دمٍ تُطْلِع الكلمات: سوطًا آنَ الغضب، وحنانًا أَواناتِ الحب.
غريبٌ كيف استطاع أَن يجمع في قلمه الواحد كفَّ السوط الهادر ولمسة الرقَّة الذائبة.
غريبٌ كيف جمَع فيه تموز (إِله الغضب) وأَدون (إِله الحب والجمال)، وظلَّ واحدًا في تموزيَّته وأَدونيَّته: الرائد المعلِّم.
كأَنما جاء وقتٌ كان لا بُدَّ فيه من فؤَاد سليمان. عند كل منعطفٍ من تاريخ، يكون لا بُدَّ من صَوت. فؤَاد سليمان كانَهُ. لا في صدى النبرة بل في ينبوعها.سوى أَنه لم يأْتِ من الـ”لا” خاويًا من “نَعَم”. أَطلَّ على الناس في محبة القويِّ الواثق من حصاده يوزِّعه قمحًا وصَلاحًا في مواسم الجنى: “ليتَه كان لي أَن أَملأَ صباحات الناس بالخير، فلا يَطْلع عليهم صوتي إِلَّا في مواسم الورود والأَطياب. من أَجل الخير يَدور تموز في الشوارع والزوايا والتَّكايا وفي الأَكواخ والقصور، يَمسح في الناس جراحًا ويَنكأُ جراحًا، يُجفِّف دمعةً في عين، ويَلطُم بمخرزٍ عينًا أُخرى، يُربِّت على خدٍّ حَيِــيّ، ويَصفَع خدًّا وقِحًا… من أَجل الخير ولا شيْءَ غير الخير، يَحمل تموز قوسه وسهمه ويَمشي في غابات هذا البلد، يُصارع الوحوش البرية المنتشرة في جبالنا وسهولنا، في مدننا وقرانا. ولن تَرحم سهام تموز وحشًا: إِمَّا أَن تَصرعَه الوحوش البرِّية وتَكسرَ سهامه وتُمزِّق قلبه، وإِمَّا أَن يصرعَها فلا يبقى عندنا غيرُ الخير” (افتتاحيته الأُولى في “النهار” من زاويته “صباح الخير” بتوقيع “تموز”).
يا طيبَها طَويَّته: يعرف أَن القوَّة في الخير أَعتى من الشر في القوَّة. من قلب الحقيقة جاء، حاملًا استقامةَ نبضتها، لا يَهاب قولةً ولا يَرتدع عن إِقدام.
… وجامع لبنان فكرًا وجمالًا
لبنان على هُدب قلَمه تاجٌ رصَّعه الشغَف بهذا الوطن الذي رأَى إِليه الشاعرُ أَرضَ الشعر ومغنى الشعراء، فكينونتُهُ وطنٌ من جمال، ورسالتُه برجُ حضارةٍ على قمَّته منارةٌ تَهدي وتوزِّع الشَّعَّ الخصيب على أَمواج البشر: “كلُّ ما عندنا شِعر. في أَغانينا الشعبية شِعر. في أَناشيد أَنبيائنا شِعر. في ملاحم أَبطالنا شِعر. في دُروبنا شِعر. في عناقيد دَوالينا شِعر. بلادٌ كلُّها شِعر. أُسطورةٌ ملفوفةٌ بالشِعر“.
إِنه الاعتزازُ بالشِعر، بالنثر، بالكلمة، بهذه السماءَة التي تُـمطر غيماتُـها لونًا على القلوب وأَرَجًا على النفوس، فيخضَرُّ الأَدبُ حقولًا من ربيعٍ دائمٍ لا يُطْلِعُ في بساتينه وحدائقه سوى أَغمارِ أُغنياتٍ طالعةٍ من فَوَحَان النُّور على قمم لبنان، من شمس لبنان المشرقة على الشرق جَديدًا لَفَحَ الشرقَ كُتَّابُه وشُعراؤُه بنَغْوَة الأَدب من لبنان: “في تُراث لبنان الفكريّ مَظاهرُ شتى تدُلُّ على تأَصُّلِ قيَم الخير فيها وعطائِه الكريم. وليست صِدْفةً أَنَّ روما العظيمة اختارت بيروت ملجَأً تؤَدِّي إِليه المعرفة، وأَنَّ الذهن البشريَّ انفتح على نُور الحرف يَحمله بحَّارةٌ من بلادي إِلى عتمات الأَرض“.
ومتى هكذا كان الأَدبُ، شعرُه والنثْر، كان أَدبَ الحياة الذي وَسَـمَهُ فؤَاد سليمان بأَعصابه كأَنْ بأَعصابه يكتب لا بالقلم، ومن قلبه يَسْتلُّ الحروف لا من اللغة.
أَدبُه أَدبُ الحياة
أَطلَّ فؤَاد سليمان على الأَدب اللبناني مواصلًا خطَّ رائده الساطع: جبران. ولم يتوانَ عن انحناءةٍ بَنَويَّةٍ أَمام سَكْب الماء المقدَّس من كفِّ “النبي”: “جبران أَعظمُ من أَديب. إِنه ثورةٌ فكريةٌ هزَّت أَعماقَ الأُمَّة الهاجعة المقهورة، وأَوقَفَتْها في وجه الحياة الحُرَّة. جبران يقظةُ شعبٍ ضعيفٍ ذليل، كان مستسلمًا في شُعرائه وأُدبائه وحُكَّامه ورُؤَساء أَديانه وأَفكاره وتقاليده، فجاء جبران سوطًا أَلْهَب خنافس الأَدب العقيم الرَّجعيِّ وتَرَكَهُم عُراةً يَستُرون عُريَهم بورقة تين. في جبران سمعَتِ الأُمَّة صوتَها، وباحت بأَسرار أَشواقها، ووجدَت هيبتَها وعزْمَها وثورتَها وجمالَها، وما فيها من جلالٍ وجمالٍ وإِحساسٍ وخيالٍ وإِشراقٍ وأَفراحٍ وآلامٍ وثوراتٍ وغنىً ومحبةٍ وإِخلاص. هكذا جبران جعل لبنان في الأَرض قمَّة. كَتبَ الدّم الغَضوبَ في الحروف، فكانت الحروفُ عواصفَ نارٍ، وقبلَه كانت الحروفُ عبيدًا سوداءَ تتمرَّغ في التراب… لن نرضى أَن يكون في لبنان أَعظمُ من جبران خليل جبران“.
أَدبُ الحياة إِذًا هو أَدب فؤَاد سليمان. أَدبُ الكلمة التي تخرج من حروفها إِلى وَسَاعة المدى فيصبح المدى فضاءً لا إِلى حدود، يُشبه الوساعة الْـــبَلَغها فؤَاد سليمان، شِعرًا ونثرًا بلَغها، يملأُها زنبقًا مَرةً ومرَّةً عِصِيًّا، فلا يلوي على لومٍ ولا يتوقَّف دون ارتداع.
معه لم يعد الأَدب رسالةً، ولا حِرفةً، ولا مهنةً، ولا نهجَ حياة. معه صار الأَدبُ هُويّةَ الحقيقة، متى بلغَها الأَديبُ لا يعود معها تَساهُلٌ أَيًا يكُن المخاطَب. فالحقيقة أَقوى من المخاطَبات والمخاطِبين. وأَدبُ الحياة لا مكانَ فيه سوى للجديرين بنعمة الحياة في نُسْغ أَقلامهم، وإِلَّا فكلماتهم مُـحنَّطةٌ لفْظيَّةٌ برَّانيَّةٌ رخاميَّةٌ خَزَفيَّةٌ باردةٌ كصقيع تمثال: “أَيها الشُّعراء الذين تنْظُمون الشعر في بلادي: عيبٌ عليكم تَقتُلون الليالي سَهَرًا لتُطْلعوا كلماتٍ من حروفٍ وحروفًا في كلمات وليس في قلوبكم إِيمانٌ بما تُسمُّونه “بلادي”. لن تكون بلادُكم عظيمةً في المقاطع والحروف والكلمات. إِن لم تكن الكلماتُ نارًا كانت شتيمة، وإِن لم تكن إِيمانًا عميقًا كانت تجديفة مُرَّة“.
ماذا عن فؤَاد سليمان ودرب القمر؟
الجواب في الجزء الثاني من المقال (“النهار العربي” – الجمعة المقبل).
كلام الصور:
– ظلال كلماته في مسويات درب القمر
- فؤاد سليمان وغسان تويني في “النهار”
- إِلى مكتبه في “النهار” يكتب زاويته “صباح الخير”
- “تموزيات” مجموعة من مقالاته الثائرة في “النهار”
- “أَغاني تموز” قصائده التي لم يَرَهَا مجموعةً في كتاب