هنري زغيب
في الجزء الأَول من هذا المقال (“النهار العربي” الثلثاء هذا الأُسبوع) مرَّ عن فؤَاد سليمان (1912-1951) وعلاقته بالأَدب الحي. في هذا الجزء الثاني الأَخير سبعونه (1951-2021) بين قَمَر الأَدب ودرب القَمَر.
شكَّلَت دربُ القمر علامة فؤَاد سليمان في كلِّ ما كتب. وكانت جوزفين – حبيبتُه فزوجتُه – نجمتَها الوحيدة: “كانت الدرب طريقًا تُؤَدِّي بي إِلى البيت. ومنذ لوَّحَت لي من فوق، من شبَّاك بيتها الغربي، صار القمر يطلع من بيتها وصارت تلكَ دربَ القمر، فلم يَعُد يغيب قمرٌ في ضيعتنا إِلَّا من هناك”.
في كل ما كتَب ظلَّت بكارةُ الكلمة همَّه، في الغزَل جاءَت أَو في الأَدب أَو في الوطنيات. ولم يفصل في مبادئه بين شعر ونثر. إِلى الشعر النابض دَعا. وإِلى النثْر النابض نادى. بقلمه سَنَّ هُويَّتَه فلا حرَج عنده أَن يُخرِجَ من فردوس الأَدب طارئين مُقَنَّعين بأَلقابٍ ومُـحَصَّنين بشهاداتٍ أَو مُتَجلْبِبِين بخِدَعٍ من تسمياتٍ فضفاضةٍ لا تكرِّس أُدباء، كما في هذه الصفعة على ادِّعاء واحدٍ من “الدكاتير” كان في عصره نافذًا ذا أُبَّـهة تُــخشى مقاربتُها: “عُذري، إِن تجرَّأْتُ على دكتورٍ في الفلسفة – وأَنا من خرِّيجي مدرسة “تحت السنديانة” – أَنني يا دكتور أُؤْمنُ بأَنَّ الإِنسان لا يَـخْلُدُ بحفلةِ تكريمٍ ولا بوسامٍ ولا بلَقَب دكتور“.
لم يَرَ كتابًا واحدًا مطبوعًا
يُقال فيه الكثير، هذا الفؤَاد سليمان، فلا ينْضُبُ قولٌ ولا ينْبُضُ اكتفاء. علامتُه، وهو الشاعر كثيرًا، أَنَّ لبنان عنده نبعُ الينابيع. قلَّةٌ في أُدبائنا مَن وَفاءً أَعادوا نُسْغَ الشريان في أَدبهم إِلى جُذور لبنان، لبنان الإِرث العظيم، لبنان الضُّؤُولة الجغرافيَّة والنُّحُولة الديمغرافيَّة والبُطولة الإِبداعية. سوى أَنه، هو، أَعاد نُسغَهُ إِلى أُبُوَّة لبنان بكل اعتزازِ البُنوَّة وفخر الانتماء: “يَموت الأَدبُ في الأَرض، ولا يَموتُ عندنا. اللونُ، نحن مَسَحنا به الحروفَ فأَشرقَ الحرفُ في ضياء اللون. ومرَّغْنا بالطِّيب هذا الحرفَ العربي فَنَبَتَ الحرفُ من أَقلامنا مثلما تَنْبُتُ الوردةُ حمراءَ مخمليَّة“.
كلُّ هذا، ولم يقطف ثمارَه في سلَّة حصاده، وحُلْمُ الأَديب أَن يرى مؤَلَّفاته مجموعةً أَمامه في الحلَّة الأَبهى، تَسعَد بها عيناه قبل أَن يُغمِض صوبَ الغروب عينيه.
ذاتَ عشيّةٍ ماطرة، في حديثي إِلى الروائيّ توفيق يوسف عواد أَمام مدفأَة الشتاء في قريته بحرصاف، قدَّم لي مجلَّدًا كبيرًا من نحو 1000 صفحة، أَرفَقَهُ بتَنهيدةٍ سارَرَها لي: “الآن أَموتُ بسلام. هي ذي كتُبي كلُّها في هذا المجلَّد. صَحَّحْتُهُ كلمةً كلمة، فخرَج من دون هِنات”. وارتاحَ قُبالتي إِلى مقعده في انقشاعةِ مَنْ كافأَتْهُ الحياةُ بعُمر خصيب.
فؤَاد سليمان لم يحظَ بهذه النعمة، ولا حتى بمؤلَّفٍ مطبوعٍ واحد. تركَ كتاباتِه مقالاتٍ منثورةً في صحُف ومجلات، وتركَ أَوراقًا ومخطوطاتٍ ومكاتيبَ ومذكِّرات. تركَها وراح. جسمُه النحيلُ الضئيلُ لم يحتملْ عاصفةَ القلب الهائج بالحقيقة. ناءَ فانكسَرت على النُّحولة العاصفةُ الغَضوب، وترك الأَوراق نـِثارًا في كلِّ هنا وهناك.
جوزفين الحبيبة أَنقذَتْها
غير أَن الريح لم تذهَب بها. كانت جوزفين، الحبيبةُ الوفيَّةُ، حانيةً عليها جميعًا. لَـمْلَمَتْها ورَقةً ورَقة، قُصاصةً قُصاصة. ما لم تستطع حِفْظَه مطبوعًا ومنشورًا في جريدة أَو مجلة، نَسَخَتْه بخطِّها من الجريدة أَو المجلة، وحفظَتْهُ وحفظَتْهَا وحفظَتْ إِرثَ حبيبٍ كتبَ لها في رسالةٍ قُبَيل الزواج: “… ستُصبحين لرجلٍ لا أَنتِ لغَيره من الرِّجال ولا هو لغَيركِ من النِّساء” (24/11/1939).
وحين اكتمَلَ جمع السنابل عن البيادر بعد غيابه الوجيع، حملَتْها أَغمارًا تَلَقَّفَها وليد، أَوسَطُ البنين، فتعهَّدها ميراثًا فاح به على الناس كما عرَفَ من أُمِّه عن أَبيه كيف كان أَدبُهُ يزهر بين الناس.
ولم يكن زهرُهُ غضبًا كلُّه. من ذاك الزهر أَرِجَ حوارٌ هو في ذَوبِ الحبِّ الأَجملُ والأَحَنّ:
هو: إِرخي أَهدابكِ الطويلةَ يا عشتروت، فما في حقول لبنان سنبلةٌ حلوةٌ كهذه الأَهداب. خَلِّيها مُطْبَقَةً مُطْبَقَة، فما
أَحبَّها هكذا إِلى قلب تموز… يا لجسدكِ الإِلهيّ تَغرَق فيه كلُّها أَلوانُ لبنان، كأَنه من حرير فينيقيا الأُرجواني.
هي: أَنا وسادةٌ لرأْسِكَ يا تموز، وسريرٌ لـجسَدك. يا أَطيبَ ما في لبنان من صيَّادين، ويا أَقوى وحشٍ إِلهيٍّ في هذه
الجبال… من لبنانَ أَنت، من جبال الطِّيبِ والبَخُور. وَسِّدْني زندَكَ أَيها الصيادُ الذي أُحبُّه.
… ويَطْلُع الضوءُ، وإِذا رَجلٌ إِلـهٌ صريعٌ على صدر امرأَة.
بلى، كان هو مَن حاربَ تلك العواصف، وهو مَن ذابَ حنانًا وعشْقًا حتى الـهَيَمان، ثم لَوَى صريعًا على صدر حبيبته. بَشَّر بالخير في كلِّ حَرف، صَرَعَهُ خنزيرُ الشَّرِّ قَبل الحرف الأَخير. أَصابتْه نارٌ كم كان أَحرَقَها بسوطه الذي من كبريت حارق.
قبل أَن تَطْلَعَ الزنابق
يوم ماتَ صديقُه الياس أَبو شبكة (27/1/1947) في ضيعته زوق مكايل – وكم كان معْجبًا بالحياة النابضة في أَدب أَبو شبكة – كتَب تموز: “غدًا تَطلَع الزنابق البريّةُ في الحقْل ولا تجدُ على التلَّةِ الحلوةِ وجْهَ شاعرها. راحَ قبل أَن تَطْلَعَ الزنابقُ على الصخور، وقبل أَن يَطْلَع بَخُور مريم في حَنِيَّات الصخور. جبْهةُ الشعر عندنا مكسورة… وأَنتِ، أَيتها الشقائقُ الحمراءُ في “الزُّوق”: يوم تَطلعين مع الصَّحْوَة، إِطْلعي على قبر الشاعر الذي ماتَ قبل أَن تَطْلعي“.
يومها لم يكن يَعرف أَنه، هو أَيضًا بعدها بسنواتٍ أَربع، سيَجيْءُ يومٌ تَطْلع فيه الشقائق الحمراء في ضيعته “فيع”، ولا تَـجِدُ الشاعرَ الذي غنَّاها وغنَّى بها حبَّه، فتَبقى يتيمةً صحوةُ الفجر على درب القمر.
صحيحٌ أَنها تبقى يتيمة؟ هل يموت الشاعر حين يموت؟ لا أَيها الشاعرُ العاشق، أَيها الـ”تـموز” الباشق، لا يموت الشِعر لأَن الشاعر لا يموت.
وهكذا أَنت لا تموت: باقيةٌ كلماتُك الحمراءُ شاعلةً في تموزيات أَدبنا حتى يتكرَّر كلَّ يومٍ فجرٌ نابضٌ بالأَدب الحي.
باقيةٌ كلماتُك في ذاكرتنا وفي ذاكرة لبنان الذي أَحببْتَ حتى الوَلَه. وباقيةٌ ليلةٌ لم تَتَبَرعَمْ بعدُ، لَيلَكيَّةٌ حَنون، واعدةٌ بالتي ستُطِلّ، تَفتَح شبَّاكها الغربي وتُطِلّ، تُلَوِّح لكَ من فَوق، فترتعشُ في قلبِكَ نَبضةُ الحب، وتَنفتحُ لِـحبِّك الكبير ليلةٌ قمرية من مسويات درب القمر.
كلام الصور
- درب القمر: ما زالت فيها خُطاه
- هكذا كان يرى الغروب من مطلّ درب القمر
- فؤَاد وجوزفين: الحب الكبير والوحيد (صورة العرس)
- فؤَاد وجوزفين وولداهما ربيع ووليد
- 1950: جلسة أَدبية في فندق نورماندي. من اليمين: رشدي معلوف، أَسعد بدوي، فؤَاد سليمان، محمد البعلبكي، غسان تويني.