هنري زغيب
ليس سهلًا وضْعُ بحثٍ أَكاديميٍّ موثَّق يُـكَـبْـسِـلُ بي دفَّتَين ربعَ قرن من نهضة تشكيلية أَشرقت في لبنان مع فجر الانتداب الفرنسي (1920) وتـأَلَّقت معه بعد شمس الاستقلال (1943).
الناقدة التشكيلية/الأُستاذة الجامعية الدكتورة مَهى عزيزة سُلطان اختارت أَن تلتزمَ رُبعَ قرنٍ مكثَّفًا ترسم له وفيه وعنه لوحة تاريخية سوسيولوجية تُظهر ريادة لبنان فَتْرَتَئِذٍ، وتعطي كلَّ عَلَمٍ من تلك النهضة المباركة حيِّزًا تحليليًّا (بالنص) وبصريًّا (بالصُوَر) يفي ما كان عليه من إِبداع (بعضُه آتٍ من مدارسَ غربيةٍ معظمُها فرنسي حسَب دراستهم في محترفات پاريس وروما)، ومن جرأَة (وضْعُهُم لوحاتِ عُريٍ في مجتمع صدَمه ما رآه في لوحات رسَّامي تلك الفترة).
هذا هو العمل التدقيقيُّ الرصين الدَؤُوب الذي وصَلَني هذا الأُسبوع، تَوَلَّتْهُ مهى سلطان في كتابها الموسوعي “الفنُّ في لبنان من الانتداب إِلى الاستقال” أَصدرَتْهُ أَنيقَ الإِخراج والطباعة دارُ “كُتُب” للنشْر (بيروت) في 248 صفحة حجمًا مربَّعًا كبيرًا.
ربع قرن من ثمار الريشة والإِزميل
لِـمَ اختيارُ تلك الحقبة؟ ما ميزاتها ومدلولاتها؟ وما انعكاساتها على الحركة التشكيلية في لبنان؟
من تردُّدات الانتداب الفرنسي عقْدَين على لبنان أَنِ انفتحَت أَبواب الشرق أَمام فرنسا، فوفَد منه فنانون وكُتَّاب وعلماءُ آثار وتاريخ. وكان من نتائج ذاك الانفتاح، طردًا وعكسًا، أَن أَخذَت الحياةُ العصرية الغربية تصل إِلى بيروت المتوهجةِ البَرْعَمَة الثقافية، المنفتحةِ اقتبالًا عُمرانيًّا وثقافيًّا، فظهرَت فيها نَوادٍ وجمعياتٌ توسَّلَت رعاية المفوَّضين الفرنسيين السامين، لتُقيمَ معارضَ فنيةً في الفنادق (كـ”السان جورج”) والصالات الخاصة (“الأُونيون فرانسيز”) وحتى الرسمية (مجلس النواب). وبالمقابل شارك تشكيليُّون لبنانيون، مع فناني المستعمرات الفرنسية، في معارض پاريس الدورية المتتالية إِبان ثلاثينات القرن الماضي.
في تلك الحقبة ظهر فنانون لبنانيون قاوموا تحفُّظات مجتمعهم الوطنية وبيئتهم المحلية، خصوصًا حين جَرُؤُوا على رسم العري. واستتبع ذلك نشوء كُتَّاب وشعراء وصحافيين واكبوا تلك المرحلة التشكيلية نقْدًا وتأْريخًا وتغطيات صحافية، مع سُطُوع الانطباعية الپاريسية معكوسةً على ريشات مبدعين لبنانين تشرَّبوا تقْنيّتَها وأَسبغوا عليها ما استَقَوهُ من طبيعة لبنان النور والبهاء.
بين الهوية والتاريخ
لَفَتَني أَنَّ المؤَلفة، مزاوِلةً منهجيةَ عملها الأَكاديمية، لم تقتصر على اللوحة الفنية في ذاتها، بل بدأَت من إِطارها الخارجي، ناسجةً لها بيئَتها الزمانية (ظروف نشأَة “لبنان الكبير”)، واستشرافَ الهوية (بين نزعة عربية مع أَنصار فيصل الأَول، ونزعة فينيقية مع شارل قرم وميشال شيحا)، والاكتشافات الأَثرية والنهضة السياحية، إِلى حركة الاستشراق (زيارة أُدباء فرنسيين لبنانَ ووضْعهم مؤَلفاتٍ فيه أَو منه أَو عنه)، وما رافق كل ذلك من مطالع الصالونات والمعارض تفتح للجمهور العريض نتاج المحترفات الضيِّقة.
في هذه الأَجواء بدأَ الروَّاد (تحديدًا من الجيل التالي محاولاتِ حبيب سرور ومُعاصريه) يكوِّنون طليعةَ من ركَّزوا تلك المطالع، بعد عودتهم من تَتَلْمُذِهم غربًا، واطِّلابهم التمرُّسَ في المحترفات والمعاهد لدى پاريس وروما وسواهما.
هكذا خرجَت إِلى الساحات العامة تماثيل يوسف الحويك (رأْس الشاعر شارل قرم، نُصب الشهداء الأَول في ساحة البرج -1930، تمثال عمِّه البطريرك الحويك – 1930، يوسف بك كرم على حصانه في إِهدن – 1932) وسواها.
وهكذا بدأَت تتكاثر المعارض الفنية الفردية ويسطع أَعلامُها: مصطفى فرُّوخ (1927)، قيصر الجميل (1930)، فيليب موراني (1932)، عمر الأُنسي (1932)، ونشطَت معارض “مدرسة الفنون والصنائع”، وبدأَت تظهر الرسامات (ماري حداد، بلانش عمُّون، زلفا تابت – لاحقًا زوجة الرئيس شمعون). وظهر لبنان في جناح خاص به من معرض نيويورك (1939) بتنظيم الشاعر شارل قرم، ونشطَت في پاريس نُخَب ثقافية لبنانية من رسامين وشعراء ومسرحيين.
وكان للبنان في الـمَهَاجر حضور: جبران في نيويورك، يوسف الحويك وفيليب موراني في پاريس، جورج قرم في مصر، فكانت الحركة التشكيلية اللبنانية ساطعة أَينما حلَّت.
أَشعَّة من نور لبنان
اختارت مهى سلطان أَن تخصَّ حيِّزًا في كتابها للباحثين عن اللَون والنور، لتُؤَكد على غنى طبيعة لبنان بهما كما تجلَّت في نماذجَ ذكرَتْها وحلَّلَتْها بعناية في أَعمال فرُّوخ والجميِّل والأُنسي وجورج سير وصليبا الدويهي وآخرين. ولم تختُم كتابَها دون أَن تنسج العلاقة بين انطباعية الرسامين وأَصدائها في الأَدب: نثرًا مع كتابات أَمين الريحاني في “قلب لبنان”، وشعرًا مع رائعة شارل قرم “الجبل الـمُلهَم”، وفتْح ميشال زكور صفحات جريدته “المعرض” لأَقلام الفنانين، ومثله فؤَاد حبيش في جريدته “المكشوف”.
بهذه الجولة الشاملة على رُبْع قرن تشكيلي (1920 – 1943) خلُصت مهى سلطان إِلى أَنَّ “اللوحة الانطباعة اللبنانية كانت شكلًا مثاليًّا للتعبير عن الشعور الوطني، إِحساسًا بالانتماء إِلى الجذور اللبنانية في مرحلة سبقَت الاستقلال وواكبَتْهُ، فشَدَّت روابط المقيمين وزهَّرَت حنين المهاجرين”، وكانت أَلوانُها وخطوطها ومناظرُها مرآةً للنور الجميل في طبيعة لبنان.
ضوْء بهي على التراث
صُدُور الكتاب، في هذه الفترة بالذات، ضَوْءٌ بهيٌّ على التراث التشكيلي اللبناني، يعكس إِبداعًا لبنانيًّا خالدًا لا تُخفيه مجريات الحياة السياسية الراهنة، ولا تُطفئُه ظلمات عابرة تخيِّم حاليًّا على سماء لبنان.
وأَكبَرْتُ في لبنانية المؤلفة أَنها افتتحَت كتابها بعبارة “لئن قلَّبْنا الـمَواجع في تاريخ لبنان السياسي والاجتماعي… لوَجَدْنا أَن الثقافة والآداب والفنون كانت وحدها ترتقي، وتتعالى على الجراح، محلِّقةً كطائر الفينيق في سماء لبنان”، وأَغلقَت صفحتَه الأَخيرة راجيةً أَن يكون لبنان “تَعَلَّم من دروس الحرب كيفيةَ الحفاظ على أَرضه ومبدعيه وإِرثه الحضاري والفني، كي يبقى موطنَ الحب والسلام والتسامُح”.
كلام الصُوَر:
غلاف الكتاب
من صليبا الدويهي
من عُمَر الأُنسي
من مصطفى فرُّوخ
من قيصر الجميِّل