هنري زغيب
في الجزء الأَول من هذا المقال، سردتُ نبذة عن ريتشارد وِلسون (1714-1782)، الفنان الرائد الذي تكرَّس في القرن الثامن عشر أحد أعلام عصره التشكيلي ورائد رسم المناظر في بريطانيا.
في هذا الجزء، وهو الأَخير، أُضيْءُ على وِلسون أَولَ مَن كرّس اختصاصه لهذا الفن الصعب الذي برز فيه لا مجرد نقل مسطَّح للمنظر أَو المشهد، بل مضيفًا إِليه نبذة تاريخية أَو اجتماعية مع تأْثيرات الطبيعة بأَلوانها ومناخاتها.
تأْثيرات أَسلافه
ولأَنه أَمضى في إِيطاليا سنوات عدة (1750-1757) رسم الكثير من طبيعة إِيطاليا ومن تراثها الأَدبي، بلوغًا إِلى رائعته الخالدة “مقتل أَولاد نيوبي” (1760)، وهي أَطلقَت شهرته عالميًّا، وحملَت له عددًا كبيرًا من الطلبات لرسم لوحات جديدة، خصوصًا ممَّن يريدون الحفاظ، للذكرى، على منظر أَرزاقهم وممتلكاتهم وأَراضيهم قبل تغيُّر أَحوالها أَو زوالها مع الزمن.
ويبدو، في هذا الفن الصعب، واضحًا تأَثُّره بأَسلاف بارعين، مثل الفرنسي كلود لورين (1600-1682)، وغاسبار دوغيه (1615-1675) والإِيطالي سلفاتور روزا (1615-1673)، وجميعهم استمدُّوا مواضيعهم من الميتولوجيات اليونانية والرومانية. لكن وِلسون أَضاف إِلى مواضيعه حضورًا تاريخيًا أَكثر عصريةً، فاكتسبَت لوحتُه بُعدًا آخر غير المسطح الأَول المباشر. ولهذا اكتسبت لوحته “مقتل أَولاد نيوبي” شهرة غير عادية عند عرضها في صالة جمعية الفنانين سنة 1760. اشتراها دوق كمبرلند الأَمير وليام (1721-1765) وهو عمُّ جورج الثالث (1738-1820) ملك بريطانيا العظمى وإِيرلندا. ومن يومها باتت تلك اللوحة مركزيةَ عملِ وِلسون الذي، بفضلها، اعتُبرَ العضو المؤَسس لــ”أَكاديميا الملكية للفنون” سنة 1768. وهي اتخذت مقرًّا لها في بُرلنغتون (بيكاديلّي – لندن)، وكانت أَول هيئة من نوعها كمؤَسسة مستقلة ذاتية التمويل، ضمَّت كبار أَعلام عصرها في الرسم والنحت والهندسة المعمارية، هدفُها تعميم الثقافة الفنية وتسويق الأَعمال في معارض وتعليم ومناقشات وندوات.
أَعماله لحفظ الذاكرة البصرية
كانت لوِلسون أَعمال أُخرى برسم ممتلكات مترفة خاصة، مثل قصر وِلتون (بلدة وِلتون قرب سالزبُري في ويلتشاير)، أَو مناظر شعبية عامة مثل “نهر التايمز في تويكنهام” (ضاحية من لندن يَعبر فيه نهر التايمز)، وهي كذلك من أُمهات لوحاته.
ولم يُهمل بلاد مولده، فرسم منها لوحته “سْنودُون من بحيرة لين” (أَعلى جبل في ويلز) اشتراها أَحد كبار الأَغنياء في المنطقة من أَقرباء الفنان. واشتهرت كذلك لوحته “قصر ديناس في لانغوليين” (1771) وضعَها خصيصًا بطلب من صاحب القصر واتْكِنْ ويليام وِيْنّ (1749-1789) وهو كان سياسيًّا وراعيًا أَعمالَ الفنانين، رسم له ولسون ناحيةً يحبها في بلدته: “منظر قرب وينستاي” (1771).
في جميع تلك اللوحات، جمع ولسون ببراعته الثاقبة خصوصيةَ المكان طوبوغرافيًّا مع انهمال النور على الوجوه، مستخدمًا لها تقْنيات اكتسبها في إيطاليا، ما جعل للوحات منطقته نكهةً خاصة ليست فيها أَساسًا على طبيعتها. وهذا ما شكَّل اهتمامًا خاصًا بتاريخ مقاطعة ويلز وتقاليدها وطبيعتها في ستينات القرن الثامن عشر، بفضل لوحات وِلسون الذي تواصلت شهرته في أَعمال أُخرى له من مقاطعة ويلز، مثل “بحيرة لين في حضن جبل ادريس” (1774).
النهاية الحزينة
في نهاية حياته بدأَت شهرته تخبو، لتعود فتزدهر وتسطع بعد عقود من وفاته سنة 1782. وهو بقي عازبًا ووهنَت صحته وبات معاديًا كل مَن حوله، وأَدمن الكحول حتى أَنقذه جزئيًا زملاء له في “الأَكاديميا” فأَمَّنوا له سنة 1776 وظيفة “مسؤُول المكتبة” في إِحدى المؤَسسات التعليمية، لكنه لم يَدُم فيها طويلًا. وسنة 1781 انسحب مستوحدًا إلى بيت نسيبته كاثرين جونز في بلدة كولومِنْدي حتى وفاته في 11 أَيار/مايو 1782.
شهرة بعد الغياب
بلغَت أَعماله من الشهرة أَن صدرَت عنها لاحقًا محفورات ونُسخ في القرن التاسع عشر. وسنة 2014، لمناسبة المئوية الثالثة لولادته، أَقام له متحف ويلز معرضًا ضخمًا بعنوان “ريشتارد وِلسون وتحوُّلات رسم المناظر في أُوروبا”، وانتقل المعرض “إلى مركز يال للفنون” نيو هافن – ولاية كونيتيكت الأَميركية) إِعادة اعتبارٍ لقيمته فنانًا عالميًا رائدًا.
بموازاة ذلك قام “مركز بول ميلون لدراسات الفن البريطاني” (تأَسس في لندن سنة 1970 بدعم من رجل الأَعمال الأَميركي بول ميلون) بإِنشاء موقع إِلكترونيّ لأَعمال وِلسون، مع ثبْتٍ رقمي بجميع أَعماله، ووضَعَها في متناول الدارسين المعاصرين إِحقاقًا مركزه البريطاني العالمي الرائد في فن رسْم المناظر.
كلام الصُوَر
- “شلالات نياغارا” (1779)
- “الفاتيكان وكاتدرائية مار بطرس” (1753)
- “مقتل أَولاد نيوبي” (1960)
- “بحيرة في جبل ادريس” (1774)
- “قصر ولتون” (1760)