هنري زغيب
أَعودُ إِلى الكلاسيكية، وفي هذه العودةِ عودةٌ إِلى الأَصالة التي لا تهرَم على مر الزمن، وتظلُّ فتية نضرة عابرةً عصورًا ومراحلَ ومدارسَ وتياراتٍ فلا تَمَسُّ قواعدَها تجاعيدُ ولا تعرو عمرها شيخوخةٌ داهمة.
إِذًا أَعود اليوم إِلى القرن التاسع عشر، إِلى شمس الانطباعية وأَشعَّة عصرها الجميل الذي من مدخل اللوڤر إِلى أَيِّ متحف في العالم ما زال مرنى الزوّار ومحطَّ السيَّاح ومدرسة المتدرِّجين تشكيليًّا وذاكرة الرسامين والنحاتين.
في سجلِّ الانطباعيين صبيةٌ عذبةُ الجمال، كانت منذ طفولتها فصباها وردةَ ريشاتهم وبنفسجةَ أَلوانهم ونبضةَ لوحاتهم مدى سنواتٍ ذاتِ حصاد وفير. إِنها جولي مانيه Manet التي غذّت جلسات والدتها أَولًا، وتاليًا أَصدقاء والدَيْها.
هي
ذكراها هذا الشهر، ولادةً ووفاةً: وُلدَت في پاريس نهار 14 تشرين الثاني/ نوڤمبر 1878، وفي پاريس توفيت نهار 21 تشرين الثاني/ نوڤمبر 1966 عن 88 سنة. كانت لها محاولات في الرسم، لكن الأَهم في حياتها أَنها كانت مولعة بجمْع اللوحات الفنية الفرنسية وتركَت بعد غيابها مجموعة كبرى ذات أَهمية عالية.
نشأَت وحيدة والدَيها: الرسامة بِرتْ موريزو Morizot والرسام أُوجين مانيه الشقيق الأَصغر للرسام إِدوار مانيه. في طفولتها وصباها اشتهرت بجلوسها أَمام عدد من رسامي العصر الانطباعيين، وبعد وفاة والدَيها تعهَّدها وصيًا عليها، كي تبلغ الثامنة عشرة، الشاعر ستيفان مالارميه (1842-1898).
في 29 أَيار/مايو 1900 تزوجت من الرسام الانطباعي إِرنست رُوَّار (ابن الرسام الانطباعي هنري رُوَّار) وكان عرسًا مزدوجًا تم فيه كذلك زواجُ نسيبتها جاني غوبيَّار من الشاعر پول ڤاليري.
أَنجبت جولي ثلاثة أَولاد: جوليان (1901)، كليمان (1906) ودنيس (1908)، وكتبت مذكراتها التي تضيْءُ على سيرة أَعلام الانطباعيين في عصرها، وخصوصًا رنوار ودُوغا ومونيه وسيسْلي، وتفاصيل عن قضية دريفوس وزيارة قيصر روسيا نقولا الثاني پاريس (6 تشرين الأَول/أكتوبر 1896).
توفيت في المنزل الذي كانت والدتها بَنَتْه فورثته هي وسكن فيه كذلك پول ڤاليري حتى وفاته فسُمِّي الشارع باسمه، ووضعت بلدية پاريس لوحة على مدخله وعليها: “في هذا المبنى الذي بَنَتْهُ برت موريزو وعاشت فيه، عاش وتوفي پول ڤاليري”).
الوالدان…
نشأَت جولي في جو انطباعي كامل بدءًا من والديها فماذا عنهما؟
والدها أُوجين (1833 – 1892) كان رسَّامًا إِنما دون دون شهرة زوجته، ودون إِبداع شقيقه إِدوار. لكنه أَمضى حياته القصيرة (توفي عن 59 عامًا) يهتمُّ بتشجيع زوجته على الإِنتاج والظهور.
والدتها بِرت موريزو (1841-1895) كانت رسامة ومشاركة فاعلة في تأْسيس حركة الانطباعيين، وكانت طليعية في عصرها، تستقبل في بيتها زملاءَها الانطباعيين (سِلْفُها إِدوار، إِدغار دُوغا، أُوغست رنوار، كلود مونيه، والشاعر ستيفان مالارميه الذي عرَّفها إِلى زملائه الشعراء والكتَّاب. لم يُعرف عنها الكثير لأَنها ذات يوم أَصابتها نوبة جنون فأَحرقت جميع أَعمالها الأُولى. كلُّ ما يؤْثَر عنها أَنها شاركت في سبعة معارض (من أَصل ثمانية) للرسامين الانطباعيين ركَّزت جميعها على المناظر والوُجوه وتأْثير النور والظل على اللوحة. وعنها كتب الناقد غوستاڤ جوفري (1855-1926 وهو أَحد مؤَسسي “أَكاديميا غونكور”): “ليس مثل بِرْت مَن يمثل الانطباعية في موهبة عالية وحضور ساطع”.
… والابنة الوحيدة
منذ طفولتها الأُولى بدأَت والدتُها بِرْت ترسمها كما كانت ترسم بعض الأَطفال الآخرين. وأَول لوحة لها ظهرت علنًا، وهي طفلة في سنتها الثانية، كانت بريشة والدتها سنة 1880: “جولي وقطَّتُها”. وكذلك عمُّها إِدوار مانيه رسمها في عدد من اللوحات منذ طفولتها حتى مطالع صباها.
كان لها من نشأَتها البيتية أَن لفتَت ريشات الرسامين، حتى إِذا تَيَتَّمَت باكرًا (توفي والدها وكانت في الرابعة عشرة، ووالدتها وكانت في السابعة عشرة) بقيت تلفت الرسامين وتجلس أَمام بعضهم ليرسموها. ونال النصيب الأَكبر من رسمها أُوغست رنوار (1841-1919) وكان وكان حفارًا ونحاتًا ومن أَوائل أَعلام الحركة الانطباعية، واشتهر برسمه الوجوه والأَشخاص، إِلى النساء شبه العاريات والمناظر الطبيعية والبحَّارة.
اليوميات
بدأَت جولي منذ سنتها العاشرة تكتب يومياتها (صدرَت لاحقًا سنة 1987 بعنوان “نشأَتي بين الانطباعيين-يوميات جولي مانيه” منشورات بلومزْبُري – نيويورك)، وفيها قصص مثيرة عن أُسرتها والرسامين الكانوا يتردَّدون إِلى بيتها الوالدي. وكان عطف خاص عليها من رنوار الذي كتبَت عنه في إِحدى يومياتها (14 أَيار/مايو 1898): “لا أَشتري أَبدًا قبَّعةً إِلَّا إِذا تأَكدتُ من أَنها ستُعجب مسيو رنوار. ولا أَنسى أَنه كان في جلسة رسم مع صديقه سيزان حين جاء مَن أَخبره عن وفاة والدتي بِرْت. فأَقفل فورًا صندوقة أَلوانه، واستقلَّ أَول قطار إِلى پاريس، وما زلتُ أَشعر كيف وصلَ إِليَّ عطوفًا واحتضنَني إِلى صدره بأُبُوَّة دافئة”
بين إِبداع الرسامين وريشاتهم، تبقى اللوحات وما فيها ومَن فيها، ويرحل الرسامون. هكذا، بين وصاية الشاعر ستيفان ملارميه ورعاية الرسام رنوار، نشأَت جولي مانيه يتيمةَ الوالدَين، لكنها لم تَتَيَتَّم فنيًّا، وها هي باقية حتى اليوم ساكنةً لوحات كبار الانطباعيين الذين كانت أمام قماشاتهم البيضاء كانت وردَتَهم الخالدة.
كلام الصُوَر
- “جولي الحالمة” بريشة والدتها بِرت (1894)
- “جولي والقطة” بريشة رنوار (1887)
- “جولي أَحلام نهارية” بريشة والدتها بِرت (1894)
- “وجه جولي” بريشة رنوار (1894)
- جولي ووالدتُها بِرت” بريشة رنوار 1894
- البيت الذي ورثَتْهُ جولي عن والدتها