ما عاد مُهمًّا متى وكيف تدفع الدولة اللبنانية المستحقاتِ المتوجِّبةَ عليها لــ”ميزانية تشغيل منظمة الأُمم المتحدة”، بعدما أَعلن الأَمينُ العام أَنطونيو غوتِّيرِس أَنَّ “لبنان فَقَدَ حقَّه في التصويت” عند انعقاد الجمعية العمومية (تضمُّ 193 دولة من العالَم).
هوذا لبنان إِذًا، وعلى مَسمع من كلِّ العالَم، يُعلَنُ دولةً فاشلة عاجزة ساقطة مارقة.
وأَين؟ على أَرفع منبر دبلوماسيّ سياسيّ في العالَم.
وأَين؟ في حرَم هيئة عليا كان هذا اللبنان ذاتُه عضوًا في لجنتها الدُوَلية التي صاغت “الإِعلان العالَمي لحقوق الإِنسان”.
وأَين؟ من المنبر الذي في العاشر من كانون الأَول 1948 وقَف عليه مندوب لبنان إِلى الولايات المتحدة الأَميركية – وفي الوقت ذاته إِلى الأُمم المتحدة أَيضًا – قائلًا باعتزاز: “في تاريخ وطني منذ عصور، أَنه بلدٌ ضئيلُ الحجم لكنه يغالب صعوبات قاسية للحفاظ على حرية الفكر والضمير فيه وتقويتِها في نفوس الشعب. فمنذ القِدَم كانت أَقليات مضطهدة كثيرة وجدَت في وطني ملجَأً حاميًا حقَّ الاختلاف في الرأْي والمعتَقَد”.
مَن هو ذاك العضو في اللجنة الدُوَلية وبعدها سفير لبنان؟ هي ذي قصةٌ عنه:
في اتصالي الأُسبوعي الدائم بالدكتور فيليب سالم، روى لي أَنْ بعد انتخاب جورج بوش رئيسًا للجمهورية (1989) شكَّلَ لجانًا للعمل، بينها “لجنة استشارية عُليا للرعاية الصحية” من 12 عضوًا بينهم اثنان من أَصل لبناني: ابن مرجعيون مايكل دبغي وابن بطرَّام فيليب سالم. وفي الاجتماع التحضيري الأَول للتعارف، عند تقَدُّم الدكتور سالم، بادرَه الرئيس بوش: “في لهجتِكَ الأَميركية لُكْنةٌ تُذكِّرني بمرشدٍ لي مثالٍ في الدبلوماسية. من أَيِّ بلدٍ أَصْلُك”؟ أَجابه الدكتور سالم: “أَنا من لبنان”، فابتسم الرئيس بوش قائلًا: “يا للمصادفة… ومثالِيَ الأَعلى ذاك هو أَيضًا من لبنان، واسمُهُ شارل مالك”.
وتباسَطَ الرجُلان بعض الحديث الجانبي عن شارل مالك الذي كان سفير لبنان إِلى منظمة الأُمم المتحدة سنة 1955، وسنة 1958 ترأَّس، بِاسْم لبنان، الدورة الثالثة عشرة للجمعية العمومية وكان حازمًا حاسمًا في قراراته ومشوراته.
بعد عشرين عامًا كان لبنان مجدَّدًا ساطعَ الحضور إِبَّان ولاية غسان تويني مندوب لبنان الدائم إِلى الأُمم المتحدة (1977-1982). وفي مجلس الأَمن أَطلق (في 17 آذار 1978) شعاره الشهير “دَعُوا شعبي يعيش”، وكان هو وراءَ إِعلانِ مجلسِ الأَمن القرارَ 425 القاضي بسحب إِسرائيل جيشَها من كامل الأَراضي اللبنانية.
وعلى ذاك المنبر ذاته أَيضًا وقَف كبير آخر من لبنان: السفير فؤَاد الترك (رئيس الوفد اللبناني إِلى الجمعية العمومية ثلاثًا: 1984 و1986 و1987) يدافع عن حق لبنان بالحرية وبرفْع الاحتلالات عن أَرضه، متحصِّنًا بقُوَّة لاانتمائه إِلى أَيِّ جهة سياسية لبنانية، هو مُطْلِقُ شعاره الشهير في الوفاء والولاء: “أَنا موظَّف عند ربِّ عملٍ واحدٍ هو لبنان”.
هذا هو المنبر الذي، بعدَ مجد لبنان سنة 1958 مع شارل مالك، وسنة 1978 مع غسان تويني، صدَر عنه على مسمَع العالَم ورؤْيته وإِعلامه إِعلانُ لبنان دولةً فاشلة قاصرة عن تسديد المتوجِّب عليها لمنظمة الأُمم المتحدة وتاليًا فقَدَت حقَّها بالتصويت.
أُكرر ما به بدأْتُ مقالي أَعلاه: ما عاد مُهمًّا متى وكيف تَدفع الدولة اللبنانية المستحقاتِ المتوجِّبةَ عليها.
الأَهمُّ أَنْ كان في لبنان أَصحابُ قاماتٍ دبلوماسية وسياسية وضَعوا ذاتَهم في خدمة دولة لبنان، فيما لاحقًا تولَّاها مَن جعلوا الدولة كلَّها في خدمتهم بكل صفاقة لاأَخلاقية جعلَت أَنْ يَظهَر لبنان في عيون العالَم دولةً فاسقة مارقة فاشلة واقفة على أَرصفة الدول باكيةً بَكَّاءَةً متباكيةً يستجدي أَهلُها فتاتَ الإِعانة والإِعاشة وحبوب الدواء و… حليبَ الأَطفال.
هنري زغيب
email@henrizoghaib.com