هنري زغيب
اليوم بالضبط (14 أَيلول/سپتمبر): الذكرى 700 (1321-2021) لغياب شاعر إِيطاليا وهو أَبو لُغَتها: دانتِه أَليغييري (1265-1321). “النهار العربي” يخصص له هذا الأُسبوع (اليوم الثلثاء ويوم الجمعة) مقالًا من جزْءَين.
احتفالات المئوية السابعة
هنيئًا لها إِيطاليا الوطن تحتفي دولتُها هذا العام بالذكرى 700 لغياب شاعرِها الخالد دانته. وكانت احتفَت العام الماضي 2020 بالذكرى 500 (1520-2020) لغياب رسَّامها الخالد رافايــيلُّو، والعام الأَسبق 2019 بالذكرى 500 (1519-2019) لغياب رسَّامها الخالد الآخَر ليوناردو داڤِنْتْشي.
في مئَوية دانته السابعة هذا العام (منذ أَيلول/ سپتمبر الماضي) أَزهرَت في إِيطاليا كتُبٌ نقدية وبحثية، وأُخرى بيوغرافية، وأَعداد خاصة من المجلات، ومقالات لا تُحصى في الصحف لإِبراز عبقرية هذا الدانته الخالد الذي ما زال “حيًّا” حتى اليوم، حديثَ الأَوساط الثقافية، أَدَبيِّها والفنِّيّ، وموضوعَ احتفالات ومؤْتمرات ومحاضرات وندوات في كل إيطاليا، وفي بعض أُوروپا، ولو خفَّفَت منها، نسبيًّا، جائحةُ الكوڤيد.
شبكة “راي” التلڤزيونية الكبرى خصَّصت طوال العام، في قنواتها الثلاث، برامج قراءَات من دانته وعنه، ونقلَت عددًا كبيرًا من الندوات والمحاضرات واللقاءَات الحوارية والأُمسيات الموسيقية في مدن إِيطالية عدة، نشرَها بالتفصيل تباعًا موقعُ وزارة الثقافة، مع ما جرى في عواصمَ ومدُن كبرى في العالم الغربي.
هــــــــو
مَن يكون هذا الدانته الما زال، بعد 700 سنة على غيابه، ساطعَ الحُضور بهذا الشكل، تحتفي به بلاده بنشاطٍ مميَّز هندسَتْهُ وزارة التراث الثقافي الإِيطالي، كأَنها تُكَرِّمه على حياته وهو في صدارة الحضور؟
لا تاريخ مثْبَتًا موثًّقًا لولادته. في التقديرات أَنه اعتمد في آذار/مارس 1266، بعد نحو عام على ولادته في فلورنسا ترجيحًا بين 21 أَيار/مايو و21 حزيران/يونيو 1265، استنادًا إِلى مقطع في النشيد الثاني عشر من فصل “الفردوس” (الأَبيات 114 إِلى 117 في “الكوميديا الإِلهية”) جاء فيه عن ولادته: “يومَها لَفَحَتْني أَولُ نسمة توسكانية”. ومع أَن تاريخ وفاته (في راڤينا – جنوبي فلورنسا) ثابتٌ في 14 أَيلول/سپتمبر 1321، يبقى الأَبرزَ في سيرته تاريخُ وضْعهِ رائعتَه الشعرية الخالدة: 25 آذار/مارس، هو الذي اعتمدَتْه الحكومةُ بالإِجماع في جلسة الإِثنين 4 تشرين الثاني/نوڤبر 2019، يومًا استثنائيًا وفْقَ ما أَثبتَه الكاتب الإِيطالي پاولو دي ستيفانو (مولود 1956) وأَكَّده عدد كبير من النقَّاد فاعتمدتْه المؤَسسات الثقافية الإِيطالية.
من الحب إِلى الفلسفة
في بعض سيرته أَنه ابتدأَ شاعرَ غزَل في مجموعة “الحياة الجديدة” (1291) وهي قصائد عشْقه بياتريس پورتيناري (1266-1290) لفتَت إِليه غْوِيْدُو غينيزيلِّي أَكبر شعراء توسكانا حقْبَتَئِذٍ. لكن الشاعر، بعد صدمته الكُبرى بموت حبيبته بياتريس (9 حزيران/يونيو 1290) تحوَّل إِلى الشعر الفلسفي، فتأَثَّر بــ”بحث في الصداقة” لشيشرون (106 – 43 ق.م.) و”الحوارات الفلسفية” لبُوِيْسْيُوس (480-524). هكذا كتَب “الأَناقة الشعبية” (1305)، و”المأْدبة” (1307) و”الملكية” (1313)، ثلاثية شكَّلَت المقوِّمات الفلسفية واللاهوتية لــ”الكوميديا الإِلهية”. وهو تعمَّدَ كتابة “الأَناقة الشعبية” باللغة المحكية المحلِّية التوسكانية لبلوغ أَوسع مساحة من قرَّاء “أُمِّيِّين” في اللاتينية (لغة العصر الرسمية) فانتشرَت ظاهرته شمولية باعتماد اللغات المحليَّة المحْكية في الأَدب. من هنا أَنه أَحدُ أَركان الأَدب الإِيطالي وأَبُو اللغة الإِيطالية بخروجها من اللاتينية الأُم. وأَكثر: يُعتبَر رمز الثقافة الإِيطالية واللغة الإِيطالية، فـ”الكوميديا” أَكثر المؤلفات ترجمةً ودراسةً ونقدًا وتحليلًا. وهو يشكِّل، مع الثنائي الفلونسي الآخَر جيوڤاني بوكاسيو (1313-1375) وفرنشِسكو پترارْكا (1304-1375)، ثلاثيًا أَدبيًّا فرضَت به توسكانا حضورَها اللغوي والأَدبي على سائر إِيطاليا.
سر “الكوميديا”
اتَّبَع دانته التقليد الأَدبي العادي في زمنه: قبْله بقرنٍ أَو أَكثر كانت الرُؤَى المنهَمِلة من “العالم العلْويّ” بدأَتْ تستأْثر باهتمام قراء الأَدب اللاتيني العام والأَدب الريفي كما في الأَدب الدنيوي والمحلي. هكذا أَصدر ثلاثية “الكوميديا” (“الجحيم”، “المطهر”، “الفردوس”) رائعةً أَدبية وشعرية صبَغَت الأَدب العالمي ببراعة شعرية وأُسلوب مبتكَر، وحقائق ميتافيزيقية مطرَّزة بخيال بعيد واسع مع واقعية صارمة. لذا أَثَّرت لا على أَهل الأَدب وحسْب بل على الفنون البصرية أَيضًا. فبعد صدورها ظهَر من وحيها في الرُبع الثاني من القرن الرابع عشر عددٌ من الرسوم التزيـينية واللوحات، وفي نهاية القرن الخامس عشر ظهر 100 رسم للفلورنسي ساندرو بوتيتشلِّي (1445-1510)، كما صدرَت في پاريس طبعاتٌ مزينةٌ برسوم من الفرنسي غوستاڤ دوريه (1832-1883) في النصف الآخر من القرن التاسع عشر.
عاديٌّ كرجل… خالدٌ كشاعر
في السيرة الموسَّعة التي وضعها عن دانته المؤَرخُ والأَكاديمي الإِيطالي أَلِسَّاندرو باربيرو (مولود 1959) قرأْتُ ما يلي: “لا أَبحث لماذا، بعد 700 سنة، ما زالت نضرةً، بل حاجةً، قراءةُ “كوميديا دانته”. إِنني أَسرد في هذه البيوغرافيا سيرةَ رجل عاديّ من القرون الوُسطى، كان له والدان وأَخوال وأَعمام وعمَّات وخالات وأَجداد. ذهب إِلى المدرسة، عاش الحب، تزوَّج، أَنجَب، التزم سياسيًّا، حارب، ذاق النجاح والبُؤْس، عرف الغنى والفقْر، ومع ذلك هو… أَحد أَكبر شعراء الأَرض”.
ذاك هو دانته: عاش مواطنًا مرفَّهًا في فلورنسا أَغنى مدن إِيطاليا في أَزهى عصر أُوروپيّ. فهي كانت محميَّةً للبابا، تابعةً له، وعلى علاقة وُدٍّ مع ملك فرنسا، وكان فيها مال ومهاجرون وتجار ووُرَش عمرانية. سوى أَنَّ دانته لم يهتم بالأَعمال التجارية. كان يعيش من مردُود مريح فانصرف إِلى مغامراته العاطفية والدراسة والكتابة. وفي الثلاثين اكتشف هوًى جديدًا: السياسة، فانصرف إِليها بكليَّته لكنه… خسِر رضى المدينة”.
ولكن… ماذا في هذه “الكوميديا” الرائعة التي ما زالت تشغل الأَدب في العالم منذ 700 سنة؟
الجواب في الجزء التالي من هذا المقال (“النهار العربي” – الجمعة المقبل).
كلام الصور:
- دانته وسْط عالمه السحري في “الكوميديا الإِلهية” (الصورة الرئيسة)
- دانته “رجل العام” 2021 في أُمَّهات المجلات الإِيطالية
- “عاشَ دانته”… من ملصقات المئَوية السابعة (ويبدو رأْسُهُ إِلى يمين الصِفْر الأَخير)
- دانته متوَّجًا بـغار الخُلود
- تمثال دانته الشهير في ساحة فلورنسا