هنري زغيب
قيل فيها أَنْ لولاها لَما أَصبح الرسام الإِسباني سلفادور دالي (1904-1989) ما بلغه من شهرة وطرافة وإِبداعٍ وَسَمَهُ رائدًا في الفن الحديث. لِماذا؟ هل لأَنها ملهمتُه؟ أَم لأَنها حبيبتُه؟ أَم لأَن بينهما قصة حب غريب هي التي منحتْهُ شرارة الانطلاق إِلى مغايرة تاريخية تحمل بصمته الخاصة المتفردة؟ أهي التي كانت قويةً قاهرةً في علاقتها به؟ أَم هو الذي كان ضعيفًا أَمامها قابلًا كلَّ ما يصدُر عنها؟
هنا قصة هذا الحب الغريب وما نجَمَ عنها.
زوجته و…عشيقة سواه
هي روسية المولد. اسمها الأَصلي هيلينا إِيفانوفا دياكونوفا (1894-1982). ولقبُها المعروف: غالا. حين التقاها دالي سنة 1929 كانت تكبره بعشْر سنوات، وكانت فترتئذ (بين 1917 و1929) زوجة الشاعر بول إِيلوار (1895-1952) ولها منه طفلة (سيسيليا 1918-2016). كما كانت في الفترة ذاتها عشيقة الرسام السوريالي ماكس إِرنست (1891-1976) وهو رسم لها وعنها عددًا من أَبرز لوحاته. وورد في مراجع فنية تأْريخية أَنها أَلهمت أَعلامًا سورياليين آخرين في طليعتهم الشاعران أَندريه بروتون (1896-1966) ولويس آراغون (1897-1982).
في مطلع آب/أُغسطس 1929 قام إِيلوار وزوجته غالا بزيارة إِسبانيا، والتقيا فيها الرسام الشاب سلفادور دالي. كان اللقاء صاعقًا وانهالت غالا إِلى علاقة فورية عاصفة مع دالي. ومن يومها ساكنته خمس سنوات حتى عقدا سنة 1934 زواجًا مدنيًّا أَتبعاه بالزواج الديني سنة 1958.
نجمة لوحاته
في دفتره الخاص “حياتي السرية” كتب دالي: “كان قدَرها أَن تكون لي غراديفا التي تقدِّمني إِلى الأَمام، وتوصلُني إِلى النجاح فتكون زوجتي”. وغراديفا (ومعناها “المرأَة التي تمشي”) هي بطلة رواية “غراديفا” (1902) للكاتب الأَلماني ويلْهلْم جِنْسِنْ (1837-1911)، الشخصية الرئيسة فيها: سيغموند فرويد الذي عاد فوضع عن الرواية تحليلًا نفسانيًّا سنة 1907.
منذ االلقاء الأَول باتت غالا موديل دالي ونجمة الكثير من لوحاته، حتى تلك الدينية كلوحته “عذراء شاطئ ليغات” (1949) التي قدَّمها دالي إِلى البابا بيوس الثاني عشر في جلسة خاصة. وفيها رسم غالا بشخص العذراء عند شاطئ ليغات (كاتالونيا)، الجزيرة الصغيرة التي أَحبَّها دالي وعاش فيها، وما زال فيها بيتُه حتى اليوم متحفًا لأَعماله.
لشدَّة تعلُّقه لها، بدأَ منذ مطلع الثلاثينات يوقِّع لوحاته باسمه واسمها معًا، كاتبًا لها في دفتره: “أَرسم لوحاتي لا بالأَلوان بل بدمكِ”. وبالمقابل تولَّت غالا تسويق أَعماله محاججةً بقوَّةٍ لتحصيل حقوقه من أَصحاب الصالات ومشتري لوحاته.
“أَنا لولاها أَنتهي”
يروي عنها الدارسون أَنْ كانت جذَّابة بشكل مثير. لذا أَوحت للكثيرين من الشعراء والرسامين. وها دالي يكتب من جديد في دفتره الخاص: “أُلَمِّع غالا حتى تسطَع فأَجعلَها سعيدة هانئة، مهتمًا بها أَكثر مما بي، لأَنني لولاها أَنتهي”.
لكن هذه الجذوة الحارقة من عصف الحب، كان لها أَن تَخمد. فمع أَواخر الستينات أَخذت علاقتُهما تفتر، وبقيا يعيشان معًا إِنما بدون تلك الشعلة التي أَلهبت حياتَهما معًا قبل ثلاثة عقود.
يزورها إِنما… بعد إِذْنها
سنة 1969 اشترى لها قصرًا في بلدة بوبول (كاتالونيا)، واتفَقا أَلَّا يزورها إِلا بعد موافقتها الخطية الـمُسْبَقة. وفي ذاك القصر النائي كانت تلتقي شبانًا يافعين صرفَت عليهم معظم ثروتها. وبالمقابل كان دالي يستقطب سيدات يافعات لا لعلاقة معهن بل لجمالهنّ ولكي يقفْن أَمامه فيرسمهنّ.
سنة 1980، وكان دالي بلغ السادسة والسبعين، أُرغِم على وقف الرسم بسبب شلل بدأَ يتسرَّب إِلى يديه ثم إِلى ذراعيه فإلى سائر جسمه، وبات عاجزًا حتى عن الإِمساك بالريشة. ساءَت حاله الصحية فلم يعد يرضى بتصرفات غالا، خصوصًا منها إِغداؤُها أَمواله من بيع لوحاته على شؤُونها الخاصة وأُولئك الفتيان الرسامين الجدد.
حقَنَتْهُ بالفاليوم
ذات يوم طفح به الغضب فصفعها وأَشبعها لكْمًا حتى انكسر ضلعان في قفصها الصدري. ولم يهدأْ غضبُه الجامح حتى أَعطته جرعة زائدة من مهدئات الأَعصاب (الفاليوم) فأَخذ يترنَّح ويتلاشى. وعوَّدته على إِدمان تلك المهدئات ما نَخَرَ دماغه وعطَّل جهازه العصبي.
توفيَت غالا في بيت شاطئ ليغات (10 حزيران/يونيو 1982) إِثر نوبة حمّى قاسية، ودُفِنَت في بوبول تحت تراب القصر الذي اشتراه لها زوجها. ويقال إِنها قبَيل وفاته كانت على علاقة عاطفية بالممثل الشاب (22 سنة) جِف فنهولت (1950-2019) لاعب شخصية المسيح في المسرحية الأُوبرالية “يسوع المسيح سوبر ستار” (برودواي، نيويورك 1971).
مع ذلك ظل يحبُّها
بعد وفاة غالا انهارت حياة دالي فتوقَّف عن الأَكل، وراح يهشِّم وجهه، وتنتابه نوبات صراخ وبكاء، وبقي على هذه الحالة من الجنون طيلة سنواته الأَخيرة.
في تموز/يوليو 1986، خلال فترة صحو من نوباته العصبية، كتَب: “إِذا كنت فنانًا عبقريًّا، لا يحقُّ لك أَن تموت، لأَنكَ ضروريٌّ لتقَدُّم البشرية”.
في تشرين الثاني/نوفمبر 1988 أَصابتْه نوبة قلبية أَدخلتْه إِلى المستشفى فزاره الملك خوان كارلوس في 5 كانون الأَول/ديسمبر معترفًا له أَنه من أَكثر المعجبين بفنه الطليعي الرائد. بالقابل أَهداه دالي من سرير المستشفى رسم “رأْس أُوروبا” الذي كان آخر ما تحامَل على يده كي يرسم.
بعدها ببضعة أَيام (23 كانون الثاني/يناير 1989) توقَّف قلبه فتُوُفي طاويًا بذلك 53 سنة من حياته في حب غريب مع غالا التي كانت ملهمتَه وحبيبتَه وزوجتَه. وبالرغم من رُعونة تصرفاتها ظل يحبُّها حتى اليوم الأَخير من حياته.
في التقاليد الشعرية العربية القديمة أَنْ كان لكل شاعر شيطانٌ من الجن يوحي له.
فهل غالا، إِلى كونها حبيبة دالي، كانت شيطانتَه الجنّيّة الـمُوحيَة؟
كلام الصور:
- دالي وغالا في ربيع الحب (1930)
- غالا في مناسبة اجتماعية (1955)
- غالا: شخصية العذراء في “سيدة شاطئ ليغات” (1949)
- دالي وغلا الحب الغريب
- دالي وغالا في سنواتهما الأَخيرة