لم يبْلُغْني أَنَّ مؤَسسة أَكاديمية كبرى احتفَت بــمئوية “النبي” مخصِّصَة لها حدثًا مستقلًّا، كما احتفلَت بها الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU بقسْمَين أَعدَّهما فيها “مركز التراث اللبناني”: المؤْتمر الدُوَلي نهارًا، والقراءات المسرحية مساءً.
من هذين القسْمَيْن خرجتُ بأَربع خُلاصات:
- لم يكن عاديًّا – أَو مأْلوفًا في سياق المؤْتمرات – أَن ينتهي المؤْتمر في جلسته الأَخيرة (الخامسة) بجمهور كثيف كان حضَر الجلسة الافتتاحية مالئًا كامل قاعة المحاضرات بمن جاؤُوا يُصغون إِلى 14 محاضرة مُتَتَالية عن جبران عُمُومًا و”النبي” خصوصًا، حتى طالعَني التساؤُل: هل هو جبران – في العام 92 على غيابه – لا يزال يستقطب مريديه بعدَ ما حصد غيابُه حتى اليوم من كتُب عنه ودراسات وأَبحاث ومؤْتمرات وندوات؟ أَم هو كتاب “النبي” ما زال يستقطب مهتمِّين، هو الكتاب الآتي من الغدِ البكْر لا من ماضٍ بلغ اليوم 100 سنة؟ أَم هُمُ محاضرُون ممتازون تنوَّعَتْ مواضيعُ أَوراقهم على مساحة جديدة بمعالجات لم تبلُغْها دراسات سابقة في مؤْتمرات آنفة ومؤَلفات كثيرة؟
- كنتُ أَعرف أَن ترجمتي الجديدةَ كتابَ “النبي”، بعد ترجماتٍ سبَقَتْها إِلى العربية، قد تثير تساؤُلات واستغرابات لِما جاءَت به من جديد غير مأْلوف في الترجمات الأُخرى.. لكنني لم أَتوقَّع أَن تندلع استغرابات بهذه الحدة التي رفضت تغيير عباراتٍ في النص (سمَّاها البعض “مُكَـرَّسَة”، والبعض الآخر “أَيقونية”، خصُوصًا ما صدر بتلحين الأَخوين رحباني وصوت الخالدة فيروز). وجوابي عن هذا الأَمر بسيط: ليس في الترجمة صح أَو خطَأ، بل فيها احتمالات تَغْنَم من ثراء اللغة العربية الرائعة لتشكِّل ترجمةَ كلمةٍ في سياق معيَّن تكونُ لها ترجمةٌ أُخرى في سياق آخر، شرط الأَمانة التامة للنص الأَصلي في لغته الأُم.. من هنا أَنني أَنجزتُ ترجمتي على ثلاث مراحل: ترجمة المعنى المباشر، ترجمة معنى المعنى في السياق الجبراني، ثم الانصراف إِلى النص العربي وحده تنصيعًا وصقْلًا وأُسلوبًا في العربية الحديثة اليوم.. لذا أَرفض بحزمٍ تصنيم الترجمة وجعلَها لا تُـمَسُّ، بحجَّة أَن الترجمات السابقة “مُكرَّسة” أَو “أَيقونية”، أَو هكذا شاعت في الناس.. والصدمة التي أَحدثَتْها ترجمتي ستظل طويلًا تحت مجهر النقاد، وسوف يقتنعون وعييًّا أَن اللغة،كأَيِّ كائن حيٍّ، تتطوَّر نحو الإِيجاز الطالع من أَنفاس عصرها.
- ثالثةُ الخلاصات ما اقتَطَفَتْهُ من ترجمتي المخرجةُ الطليعية لينا خوري، ونَسَجَتْهُ في حياكة مشهدية بارعة جمعَت إِليها بهجة العين في ديكور ذكي ذي مدلول جبراني، مع بهجة السَماع في موسيقى حية مباشرة على المسرح وضعَها (ونفّذَها) المؤَلِّف الموسيقي إِيلي بَــرَّاك.. هكذا سَطَعَت البهجتان في تأْثير جمالي أَجمَعَ عليه جمهور مشاهدين غصَّ بهم مسرح غولبنكيان في الجامعة، وتابع آخرون وقوفًا هذا العرض الممتع.
- الخلاصة الأَخيرة: أَداءُ الممثِّل المبدع رفعت طربيه مجسِّدًا شخصية “المصطفى” في “النبي”، باح بمكنوناته إِلى أَهل أُورفليس (مجموعة طلَّاب وطالبات المسرح في الجامعة) فجاءَ كلامه فيهم عميقًا بوَقْعه المضموني وإِيقاعه التمثيلي العالي الاحتراف، ليكونَ رفعت طربيه – بعد انقطاعٍ عن جمهوره والخشبة سنواتٍ أَربعًا قاهرة – لا ممثِّلًا مكرَّسًا وحسْب بل خلَّاقًا مسرحيًّا يُضيف إِلى النص بُعدًا يُوصِل النصَّ بِـإِدهاش، ويُضيف إِلى الإِخراج بُعدًا أَدائيًّا يُوصِل الإِخراجَ بسُطُوعٍ أَبهى.. هكذا، برأْسه الحليق وبثوب رهباني صممته له لينا خوري، بدا راهبًا بوذيًا في “پاغودة” خشوعية، يُغذِّي أَهل أُورفليس بأَفكارٍ أَمضى 12 سنة في مدينتهم يختَبِرُها ليُلْقِمَهُم إِياها في صوتٍ تبشيريٍّ جهير، فكان بذلك أَقربَ الأَقرب إِلى نبْض جبران وهو يكتب “النبي”.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com