في التاسع من هذا الشهر(كانون الأَول) بلغْتُ الخامسةَ والسبعين… وأَقولُها بثقةٍ كاملة: طَويتُ “ربيعيَ” الخامسَ والسبعين.
في العادة، عشيةَ السنةِ الجديدةِ قبل انصرامِ السنة الجارية، ينعكفُ المرء على ذاته، يتكوَّم في انفراده، ويَروحُ يفتحُ أَيامَه المنقضيةَ مع السنة الغاربة، غيرَ مُشاركٍ أَحدًا في هذه الخلوة… أَنا لا أَنفرد، بل أَبسُطُ أَيامي أَمام قُرِّائي والمستمعين، طالَما أَنني أُشاركهم معي في كتاباتي وأَنشطتي، فلا حياةَ خاصةً أَعتكِفُ عنهم لأُراجعَها… وما أَهنأَ مَن تكونُ حياتُهُ هِوايَتَه وهُويَّتَه، فيكونُ يُمضيها متنقِّلًا من ربيعٍ إِلى ربيع.
خمسةٌ وسبعونَ ربيعًا مُنتجًا من السنوات… ولا أَعرف طبعًا كم ستمنحُني الحياة بعدُ من سنواتٍ أُنتجُ فيها ما لم أَتوقَّف عنه كتابةً منذ مطالع صباي وفتُوَّتي وشبابي… سوى أَنني، مع شُكرانيَ الحياةَ على ما مَنَحَتْنِيهِ من عمرٍ حتى اليوم، أُفكِّر حولي بنخبةِ مَن قَصَفَتْهُم في مطلع الربيع وهُم في زهْو إِنتاجهم: أُفَكِّرُ بفؤَاد سليمان الذي ناء به العمر عن تسعٍ وثلاثين سنة، وأُفَكِّرُ بميشال زكور الذي سقَط عن صهوة إِحدى وأَربعين سنة، وأُفَكِّرُ بالياس أَبو شبكة الذي انقصف عن ثلاث وأَربعين سنة، وأُفَكِّرُ بجبران الذي لم تمنحه الحياة سوى ثمانٍ وأَربعين سنة، و أُفَكِّرُ بمصطفى فروخ الذي سقطَت من يده الريشةُ وهو في سنته الخامسة والخمسين،… وأُفكِّر بالكثيرين سواهم ممَّن لا يغيبون عن بالي وأَنا أَتوغَّل في غابة العُمر المبْهَمَةِ القدَر ولا معيارَ لها، فهي منَحَتِ البعضَ نعمةً فريدةً أَن تَمُدَّ لهم فسحةَ عُمرٍ مديدةً بلغَتْ مع منصور الرحباني أَربعًا وثمانين سنة، ومع ميخائيل نعيمة تسعًا وتسعين، ومع سعيد عقل مئَةً وأَربعَ سنوات، ويا نِعَمَّا ما نَعِمُوا به من نُعْميَاتِ عمرٍ مبارَكٍ أَخصبُوهُ نتاجًا هو من أَغلى كنوز لبنان.
قلتُ إِني بلغْتُ خمسةً وسبعين “ربيعًا”، ولم أَنحرف إِلى كَم خريفًا عبَرْتُ وكم شتاءً، ليقيني أَنَّ السُكنى في الربيع تَبقى مُزْهِرَةً مثْمرةً معطاءَة، لا يَشوبُها تشاؤُمٌ ولا يأْسٌ ولا إِحباطٌ ولا نـــقٌّ ولا تأَفُّف.. من هنا الطاقةُ الإِيجابيةُ التي أَحملُها بي، وأَنْثُرُها حَولي حبوبَ قمحٍ : حين تجِدُ لدى أَصدقائيَ أَرضًا خصيبةً تُثْمِرُ سنابلَ في إِيديهم، وحيثُما تقع حُبوب قمحي على صخْرٍ أَجْرَدَ تَيْبَسُ وتموت في الشمس.
أَقُولُها بتفاؤُلٍ إِيجابيٍّ دائمٍ أَحيا به، لا أَهتمُّ لِمأْكلٍ أَو مَلْبَسٍ، بل انصرافي إِلى الكتابة والتأْليف هو الذي يهَبُني دفْعًا إِلى الإِنتاجِ والنَشاط، وهو الذي يَحرُزُني من السقوط في الاستقالة والإِشاحة والاستنْقاع في التَشاؤُم الـمَلُول.. فكلُّ ما يُواجهُني من صدَماتٍ وأَحداثٍ ومشاكلَ وإِعاقاتٍ في الطريق، أَعلُو عنها وأَمضي، فتنْحَسِرُ خلْفي وأُواصل مسيرتي صوبَ الصبْح الطالع، مُشيحًا عن الليل الظَلُوم.
وما سرُّ هذا الانفتاح على الغد المنتظَر؟ إِنه: الحُب… حين أُعالجُ بِـحُبٍّ كلَّ حدَثٍ أَو حادِثٍ أَو أُحدُوثة، يَمْنَحُني الحبُّ طاقةً على العُلُوّ فوق اللحظة فأَتخطَّاها وأَخطو إِلى الأَمام، إِلى التالي، إِلى الآتي، إِلى الغد القريب والمستقبل البعيد، فَتَتَّسعُ أَمامي دروبُ الأَيام وأَعبُرُها بثقةٍ وإِيمانٍ ووِسْع اقْتِبال… الحبُّ طاقةٌ لامحدودة، تَمنَحُنَاها الحياةُ في مفاصلَ من العمرِ سعيدةٍ، فنعيشُ الخريفَ ربيعًا، واللحظةَ مديدةً، ومواجَهةً سعيدةً كلَّ ما تَختزِنُ لنا الحياة.. وحدَهُ الحبُّ هو الملجأُ والملاذُ والقوةُ العُظمى التي لا تَهزِمُها قِوًى مهما تَجَمْهَرَت.. وهو النبضُ الذي يحمِلُنا إِلى حُبِّ الحياة، ويتواصَلُ معَنا سنةً سنةً إِلى أَن يتوقَّفَ النبضُ في القلبِ ويسكتَ الفرحُ عن حماية.
بلى: هاني بلغتُ من السنواتِ خمسًا وسبْعين، وأَنا ممسكٌ بربيعِ إِيجابيَّتي وتفَاؤُلي وحُبِّ الحياة ليبقى في براعمِ أَيامي ربيعٌ دائمٌ مُزْهرُ الجمال، مثْمرُ النتاج الكتابيّ، ولا أُفكِّر في انتظار “تلك الساعة”، حتى تَظلَّ كتاباتي تُحصِّنني من الوقوع في خَشْيةِ ذاك السُكُوت الطويل.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com