هنري زغيب
في مسيرة المبدعين فُـرَصٌ تنقلُهم واحدتُها من وضعٍ إِلى آخَر أَو من حالةٍ إِلى أُخرى. وقد تحملُهم إِحداها إِلى ما يغيِّر مسيرة قدَرهم في شكل مصيري.
في الجزء الأَول من هذا المقال (“النهار العربي”- الجمعة 23/7/2021) سردتُ خمس فُرَص تتالت في حياة جبران. وهنا الخمس التالية في هذا الجزء الثاني الأَخير.
- الدراسة في پاريس: بعد خمس سنوات (منذ 1904) على تَوَطُّد العلاقة إِلى حدودها العاطفية بين جبران وماري هاسكل، وخلال الحديث في جلستهِما مساءَ الأَحد 9 شباط/فبراير 1908 عن كيفية تطوير موهبته الفنية، عرضَت عليه ماري أَن يسافر إِلى پاريس ليصقل أَكاديميًّا فن الرسم، وتكفَّلَت بجميع تكاليف السفَر والإِقامة، ومَدِّه بــ75 دولارًا شهريًّا لمصاريفه اليومية. وهو ما فاجأَ جبران فكتَب إِلى صديقه أَمين الغريِّب (ناشر جريدة “المهاجر”) رسالةً (الأَربعاء 12 شباط/فبراير) عبَّر فيها عن فَرَحه الغامر “بفرصة الذهاب إِلى مدينة النور، ما سيكون منعطفًا سيغيِّر مصير كلِّ حياتي في ما بعد”. وفعلًا أَبحر من نيويورك إِلى پاريس صباح الأَول من تموز/يوليو 1908. وحين أَبحر عائدًا من پاريس مساءَ السبت 22 تشرين الأَول/أُكتوبر 1910 ورسا في نيويورك (صباح الإِثنين 31 منه) كانت المرحلة الپاريسية فعلًا صفحة جديدة بعدما تمكَّن من الرسم لدى أَكاديميا جوليان (Julian) وفي محترفات عالية الاحتراف. هكذا، وبفضل ماري هاسكل، كانت پاريس فرصته السادسة.
- نيويورك: بعد عودة جبران من پاريس شعر أَن بوسطن ما عادت الأُفق الكافي لوساعة مستقبله، ورأَى أَن نيويورك هي الأُفق الذي يتمنَّاه. عرَضَ الأَمر على راعِـيَـتِـه ماري هاسكل فوافقَت لقناعتها أَن نيويورك هي قلب الحركة الثقافية ويجدر بجبران أَن يكون وسْط حلقات الفنانين والأُدباء والشُعراء فيها. كتبَتْ إِلى صديقتها شارلوت تِلِر رسالةً (الجمعة 14 نيسان/أَپريل 1911) تسأَلُها البحث عن شقَّة لجبران في نيويورك. لبَّت شارلوت سريعًا. ومنذ أَبحر جبران من بوسطن إِلى نيويورك (على متن باخرة تابعة لـخطوط “جُوْيْ” البحرية – صباح الأَربعاء 26) كان فعلًا ينتقل إِلى مرحلة مصيرية في حياته إِذ بقي في نيويورك عشرين سنة (1911-1931) وانفتحَت له آفاق واسعة ما كان يمكن أَن تنفتح له في بوسطن. هكذا، أَيضًا وأَيضًا بفضل ماري هاسكل، كانت نيويورك فرصته السابعة.
- أَلْفْرِد كْنُوفْ: في نيويورك توسَّعت الحلقات الثقافية التي انخرط فيها جبران، وهو سكَنَ في “غرينْويتش ڤِلِدْجْ” (حيٌّ خاص في أَسفل مانهاتن اشتُهر بأَنه واحة أُدباء وشعراء وفنانين تشكيليين). وكانت ماري هاسكل، طيلة السنوات التسع الأُولى من علاقتهما، ساعَدَتْهُ على التمكُّن من اللغة الإِنكليزية وشجَّعتْهُ على الكتابة بها مباشرةً. وكان فعلًا من الجهد والمثابرة أَنْ وضع بها كتابه الإِنكليزي الأَول “المجنون” (1918). أَرسله إِلى الناشر ماكْمِلَن فَرَفَضَهُ لغرابة مضمونه. ومساءَ الخميس 9 أَيار/مايو عامئذٍ، إِبَّان عشاء خاص، عرَّفه صديقُه الشاعر ويتِّر باينر بالناشر الشاب أَلْفْرِد كْنُوفْ فاستهوَتْهُ فكرةُ الكتاب وطلَب الاطِّلاع على المخطوط. بعد عشرين يومًا كان جبران في مكتبه يوقِّع على عقْد النشْر ويكتُب فَرِحًا (الأَربعاء 29 أَيار/مايو) إِلى ماري هاسكل: “اليوم وقَّعتُ على العقْد مع كْنوفْ فسلَّم فورًا، وأَنا بعدُ لديه، صورة الغلاف إِلى حفَّار الزنك. يَصدر الكتاب في منتصف تشرين الأَول/أُكتوبر المقبل”. وكانت تلك بدايةَ مسيرة أَدبية كاملة وفجْرَ الشهرة الآتية، لأَن كْنُوفْ هو الذي منذئذٍ نشَر جميع مؤَلَّفات جبران بالإِنكليزية، وعلى رأْسها كتابه “النبي” الذي جعل منه كاتبًا عالميًّا. وهكذا كان لقاؤُه بكْنُوفْ فرصتَه الثامنة.
- سانت مارك: بعد خمس سنوات على صدور “المجنون” (1918) وثلاث على صُدور “السابق” (1920)، صدر “النبي” (1923) رائعة جبران الخالدة، فأَخذ وليام غُثْري (قسيس كنيسة سانت مارك – القديس مرقس في مانهاتن) يدعو في أُمسيات الأَحد إِلى جلسات قراءات من فصول الكتاب يؤَدِّيها الممثِّل المسرحي بَطْلِر داڤنپورْتْ. أَخَذَتْ تلك الأُمسيات تستقطب جمهورًا متزايدًا أُسبوعًا بعد أُسبوع، وغالبًا ما كان كثيرون من الحضور يبادرون بعدها إِلى شراء الكتاب، ما سجَّل في إِحصاءات دار النشر (كْنُوفْ) تزايُدًا سريعًا في مبيعات الكتاب وتاليًا تَوَسُّعَ شهرة صاحبه. وكانت أُمسيات الكنيسة فرصةَ جبران التاسعة إلى الشُهرة.
- باربرة يونغ: من سعادة الصُدَف أَنْ كانت بين حضور القراءات في الكنيسة الشاعرةُ الأَميركية باربرة يونغ التي حفَزَتْها النُصوص إِلى شراء خمس نُسخ من الكتاب وزَّعَتْها على صديقاتٍ لها إِعجابًا عاليًا بما فيه. وكان في ظنِّها أَنَّ كاتبَه يعيش في بلاد نائية من الشرق الأَوسط، إِلى أَن فوجئَتْ بقول صديقةٍ لها إِنه يعيش قريبًا جدًّا في مانهاتن: المبنى 51 من الشارع العاشر غربًا. كتبَت له لهيفةً تطلب منه موعدًا فجاءَها الردُّ سريعًا لا كتابيًّا بل هاتفيًّا من جبران ذاته يدعوها إِلى محترفه. هرعَتْ إِليه صباح الثلاثاء 10 آذار/مارس 1925، وكانت تلك الزيارةُ الصباحيةُ صباحَ علاقة أَدبية متواصلة معه بإِيقاع شبه يومي في محترفه استمرَّت حتى وفاته إِذ كانت باربرة إِلى سريره لحظةَ انطفَأَ نَفَسُهُ الأَخير عند الساعة 10:55 ليلةَ الجمعة 10 نيسان/أَبريل 1931 في مستشفى سانت ڤِنْسِنْتْ (نيويورك). وهكذا كان لقاؤُها الأَول به مدخلَ مسيرة أَدبية طويلة دامت ست سنوات متواصلة كانت طوالها باربرة يونغ معاونةَ جبران: تدوِّن مؤَلفاته (“رمل وزبد” 1926، “يسوع ابن الإِنسان” 1928، “آلهة الأَرض 1931). كان يُمْليها عليها ثم تطبعها على آلتها الكاتبة ليضع عليها لمساته الأَخيرة قبل إِرسالها إِلى الناشر كْنُوفْ. وبلَغَ وفاؤُها له أَنْ بعد وفاته بثماني سنوات سافَرَتْ في تشرين الأَول/أُكتوبر 1939 إِلى أَرض شغَفه الدائم: بلاده الأُمّ لبنان (زارت ضريحَه في بْشَرّي ومدرسة “الحكمة” في بيروت). من جلساتها اليومية إِليه في محترفه ومن رحلتها إِلى لبنان، وضعَتْ عنه كتابها الشهير “هذا الرجل من لبنان” (1945)، وفيه وصَفَتْ أَدقَّ التفاصيل الشخصية من حياته كاتبًا ورسَّامًا، وفيه تفاصيل رحلتها إِلى لبنان. وكان لقاؤُها بجبران الفرصةَ العاشرة في حياته.
هكذا تتالت الفُرَص العشْرُ في مسيرة جبران، فكانت واحدتُها تؤَدِّي به إِلى الفرصة التالية، والتاليةُ إِلى التي بعدها، حتى شكَّلَتْ تلك الفُرَص المترابطة مسيرةَ جبران وشهرةً عالمية بلغَت به أَبعدَ حدود الزمان والمكان.
كلام الصوَر
- باربرة يونغ و”هذا الرجل من لبنان”: الوثيقة الكاملة
- هنا سَكَن جبران سنَتَين في پاريس
- أَلْفْرِد كْنُوف ناشر جميع كتب جبران
- محترف جبران في نيويورك
- كنيسة سانت مارك والقراءَات الشعرية فيها