هنري زغيب
في مسيرة المبدعين فُرَصٌ تنقلُهم غالبًا من وضعٍ إِلى آخَر أَو من حالةٍ إِلى أُخرى. وقد تحملُهم إِحداها إِلى ما يغيِّر مسيرة قدَرهم في شكل مصيري. وربما تكون مسيرةُ المبدع سلسلةَ حلقات متَّصلة واحدتُها بالأُخرى، كلُّ فرصةٍ تؤَدِّي إِلى تاليةٍ أَفضلَ حتى إِذا تتالت الفرَص بلغَ المبدع ما يكون وسَّع أُفقه إِلى فضاء الخلود.
تلك حالةُ جبران خليل جبران، منذ صباه الأَول حتى نفَسه الأَخير.
فكيف تتالت الفُرص حلقاتٍ متصلةً متواصلةً في مسيرته؟
- كاملة رحمة: أَتاح القدَرُ لجبران فرصةً أُولى حين ضاقت بوالدتِه كاملة رحمة سبُلُ الحياة المستقرَّة في بلدتها الأُم بْشَرّي، فلم يعُد زوجها خليل جبران قادرًا على القيام بما يُسعف أُسرته وبدأَت تعجز عن إِعالة أَبنائها، فقرَّرَت أَن تحزم حقائبها وتصطحب ابنَها البكْر بطرس رحمة (من زواجها السابق بحنَّا عبدالسلام رحمة) وابنَها جبران وابنتَيها مريانا وسلطانة، وتسافر إِلى أَميركا. وهو هذا ما حصل: سافرَت بهم بحرًا، ورسَت الباخرة مساء الثلثاء 25 حزيران 1895 في إِيليس آيلاند بوابةِ الدخول إِلى أَميركا، فكانت بوابةَ دخول جبران العالَمَ الذي سينطلق منه إِلى الخلود. وكانت تلك فرصةَ جبران الأُولى.
- دنيسون هاوس: بعد ثلاثة أَشهُر من وصول الأُسرة إِلى بوسطن أَدخلَت الفتى جبران (12 سنة) إِلى مدرسة كْوِيْنْسي (الإِثنين 30 أَيلول/سبتمبر 1895) القريبة من الحي الصيني حيث استقرَّت موقَّتًا. ومن تلك المدرسة كان التلامذة يختلفون إِلى “دنيسون هاوْس” (نادٍ ثقافي لأَولاد المهاجرين)، وفيه تنبَّهت الْمُدَرِّسة السيدة فلورنْس پيرْس إِلى موهبةٍ للفتى جبران في الرسم مغايرة عن أَترابه، فلفتَت إِليها مسؤُولةَ الشؤُون الثقافية في النادي السيدة جيسي فْريمونت بِيل التي بادرت إِلى مساعدة الفتى الموهوب وكتبَت إِلى صديقها الناشر والمصوّر فْرِدْ هولنْد داي نهار الأَربعاء 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1896 رسالةً تسأَله فيها أَن يستقبلَ في محترفه “صبيًّا أَشُوريًّا (كذا) شبْهَ أُمِّيٍّ من أُسرة في الحيّ فقيرةٍ”، وأَن يتفحَّص موهبته لعلَّه ينقذه من التشرُّد في الشارع مع صبيان الحي. وكانت لفتةُ السيدة بيل فرصة جبران الثانية.
- فْرِدْ هولنْد داي: بعد أُسبوعين من تَلَقِّي داي الرسالة كان جبران (صباح الأَربعاء 9 كانون الأَول/ديسمبر 1896) يقف في بابه، حاملًا ببعض الخجل عددًا من رسومه، ترافقُه الـمُدرِّسة التي اكتشفَت موهبته: فلورنْس پيرس. لم يطُل كثيرًا اختبارُ داي حتى وجد في الفتى بذور موهبة واعدة تَلزمُها عنايةٌ، ورأَى في وجهه ملامحَ شرقيَّةً لفتتْه فأَخذ يلتقط له صُوَرًا فوتوغرافية ثم لوالدته وشقيقتَيه، ما شكَّل لديه مجموعةً لمعرض خاص. راح يطوِّر له ثقافته الفنية ويصحبُهُ إِلى كونشرتوات موسيقى كلاسيكية، وتعهَّده ماديًّا فراح يطلب إِليه وضع رسومٍ لأَغلفة الكتُب التي كان ينشرُها، ويثقِّفُه بإِرشاده إِلى كتُب يقرأُها كي يتمكَّن من الإِنكليزية. وكان هولند داي فرصة جبران الثالثة.
- أَمين الغريِّب: في صيف 1903 كان عرسٌ لأَحد أَبناء الجالية اللبنانية في بوسطن. وكان بين المدعوين الصحافيُّ اللبناني أَمين الغريّب صاحب جريدة “المهاجر” التي أَسسها عامئذٍ في نيويورك وبدأَت تنتشر بين أَوساط الجالية في ولايات كثيرة. يومها تعرَّفَ به جبران، وقرأَ له مقطوعاتٍ نثريةً لفتَت الغريِّب بجديد في أُسلوبها وأَفكارها، فعرض عليه أَن ينشُر له مقالًا أُسبوعيًا في جريدته، لقاءَ دولارين عن كل مقال. وهكذا راح جبران يطلُّ على القراء بأُسلوبه المبتكَر في زاوية “دمعة وابتسامة” على الصفحة الأُولى من الجريدة. ثم أَصدر له الغريِّب، على مطبعة “المهاجر”، أَوَّل ثلاثة كتب بالعربية (“الموسيقى”- 1905، “عرائس المروج” – 1906، “الأَرواح المتمردة” – 1908). وكان أَمين الغريِّب فرصة جبران الرابعة.
- ماري هاسكل: بعدما تمكَّن جبران من الرسم وباتت لديه مجموعة كبيرة من الأَعمال، وجَد فْرِد هولند داي أَنْ جاء الوقت كي ينظِّم له في محترفه (مبنى “هاركورت” الشهير في بوسطن) أَوَّلَ معرض خاص. وكان جبران فترتئذٍ على علاقة حب مع الشاعرة الأَميركية جوزفين پيبَدِي التي كان عرفَها قبل أَن يعود إِلى لبنان (1898-1902) يدرس العربية في مدرسة “الحكمة” وبقي على علاقة بها بعد عودته إِلى بوسطن. ويرجِّح الباحثون أَن تكون هي التي يقصدها في مطلع كتابه “الموسيقى”: “جلستُ بقُرب من أَحبَّتْها نفسي أَسمع حديثها”. ومن تلك العلاقة أَخذت جوزفين تساعد هولند داي على إِنجاح هذا المعرض الذي تقرَّر موعده من السبت 30 نيسان/أَبريل إِلى مساء الثلثاء 10 أَيار/مايو 1904، وتساعد جبران في تعليق الرسوم واللوحات استعدادًا لافتتاح المعرض، وتدعو إِليه أَصدقاءَها وصديقاتها، وبينهن الآنسة ماري إِليزابيت هاسكل (مديرة “مديرة هاسكل” المعروفة في بوسطن). سوى أَن هاسكل كانت منشغلة في مدرستها فلم تحضر يوم الافتتاح. بعد يومين طلبَت جوزفين من ليونيل ماركس (صديق هاسكل) أَن يُذَكِّرها بالمعرض ففعل، لكنها كذلك لم تأْتِ. وكادت تنقضي أَيام المعرض فاتصلَت بها جوزفين وأَكَّدت على حضورها فجاءَت ماري في الساعة الأَخيرة من بعد ظهر الثلثاء (اليوم الأَخير10 أَيار/مايو). جعلَت تتنقَّل بين الأَعمال مأْخوذة بها، وكان جبران جالسًا يتابعُها في زاوية الصالة، حتى إِذا رأَى اهتمامها تقدَّم منها عارضًا أَن يشرح لها ما في اللوحات. لدى سؤَالها إِياه كيف يستطيع ذلك حيال العُمق فيها، أَجابها بأَنه هو الرسام. وكانت تلك اللحظة من حياته فاتحةَ علاقةٍ غيَّرَت كلَّ حياته، لأَن ماري هاسكل كانت المرأَة التي لولا رعايتُها جبران لاحقًا وحبُّها إِياه ودعمُها مسيرتَه الفنية لما كان أَصبح الجبران الخالد في ما بعد بفضل علاقةٍ مع ماري هاسكل دامت 27 سنة متتالية، منذ ذاك اللقاء الأَول حتى اليوم الأَخير من حياته. وكانت ماري هاسكل فرصةَ جبران الخامسة.
ما الذي قدَّمتْه ماري هاسكل لجبران؟ وما هي الفُرَص الخمسُ الأُخرى في حياته؟
الجواب في المقال التالي: “النهار العربي” – الثلثاء المقبل.
كلام الصوَر:
- جبران وماري هاسكل: الفرصة الكبرى
- كاملة رحمة وأَولادها (جبران إِلى يسار الصورة) في بْشَرِّي قبل سفَرها بأَيام
- “دنيسون هاوْس”: فرصةُ اكتشاف موهبته في الرسم
- فْرِدْ هولند داي: فرصة رعايته وتنظيم معرضه الأَول
- بطاقة الدعوة إِلى معرض جبران
- مقال “يوم مولدي” لجبران في جريدة “المهاجر”