هنري زغيب
من الطبيعي، في مأْلوف العلاقة القديمة بين الشعر والموسيقى، أَن نرى شاعرًا يلقي قصائده، يرافقُه عازفٌ على آلة مؤَاتية، فيكتسبُ الشعر بُعدًا سمعيًّا آخر، وتكتسبُ الموسيقى موطنًا لها جميلًا في فردوس القصيدة.
لكنَّ اللافت – والفنُّ سماءٌ لا حدود لها – أَن نشْهد الشعر على المسرح متحرِّكًا في جسد راقصة تطرِّز بالكوريغرافيا عالَـمَ القصيدة.
هي ذي حال المصمِّمة الكوريغرافية جورجيت جبارة، والشاعرة والإِعلامية الفلسطينية ناهدة فضلي الدَجاني.
الصوت الذي خاطب الجسد
كان ذلك قبل نصف قرن. وكانت جورجيت جبارة تقدِّم في إِذاعة لبنان فقرة خاصة عن فنّ الباليه في برنامج “إِيقاع وَنَغَم” بإِعداد ناهدة فضلي الدجاني ذاتِ الصوت الفريد في أَداء النثر وإِلقاء الشعر.
وصلَت جورجيت يومًا إِلى ستوديو الإِذاعة، وكانت ناهدة تسجِّل برنامجها الشعري اليومي “مع الصباح”، تُلْقي فيه قصائدَ من كبار الشُعراء العرب. أَحسَّت، وهي في غرفة المراقبة تصغي إِلى إِلقاء ناهدة الجميل، بنغَمية عذبة أَثارت فيها فكرةَ أَن تصمِّم رقصَاتٍ تُؤَدِّيها على صوت ناهدة دون أَيّ موسيقى مصاحبة. وحده إِلقاء ناهدة يكون النغَم. عرضَت عليها الفكرة، تحمَّسَت لها ناهدة، وانتظرتا أَن تتبلْوَر ذات يوم.
وما لبث الــ”ذات يوم” أَن دنا، حين طلبَت إِدارة التلفزيون الأُردني من ناهدة تسجيل 13 حلقة لبرنامجٍ يكون عنوانُه “شِعر”، يقتصر على تصوير ناهدة تقرأُ من قصائد الشعراء. اقترحَت ناهدة على إِدارة التلفزيون فكرةَ جمْع الكوريغرفيا إِلى الشعر. استغربتْها الإِدارة وطلبَت وقتًا للتفكير. لم يطُل الوقت حتى طلبَت من ناهدة تصوير حلقة تجريبية كي يطَّلع المسؤُولون مشهديًّا على النتيجة.
من الفكرة إِلى الكاميرا
وهكذا كان: شاهد المسؤُولون الأُردنيون تلك الحلقة التجريبية، فاقتنعوا وطلبُوا من ناهدة المضيّ في التنفيذ. وبين إِلقاء القصائد في الإذاعة مع الموسيقى للبرنامج الصباحيّ، وإِلقائها في التلفزيون مع الرقص بدون موسيقى، وجدَت جورجيت أَن الأَمر يختلف. نقلَت رأْيَها إِلى ناهدة التي اقتَبَلَتْه، وكإِصغاء العازف إِلى قائد الأُوركسترا أَصغَت إِلى ملاحظات جورجيت حول إِيقاع الأَبيات، وتنويعات الصوت، وسرعة القراءة أَو بُطئِها، وإِعادة بعضها خلال القصيدة (مع فواصل قصيرة جدًّا وسريعة أَحيانًا من نفخة ناي أَو رنَّةِ عود لتطريز المعنى أَو الصورة). وكانت ناهدة تستضيف شاعرًا كبيرًا لكل حلقة يقرأُ من شعره، لإِيمانها بجديد هذه التجربة التلفزيونية الرائدة.
اختارت ناهدة القصائد، كتبَتْها بـخطِّها، وضعَت عليها جورجيت بالأَحمر ملاحظاتها السينوغرافية التي على أَساسها تصمِّم رقصةً لكل قصيدة. تـمَّ الاتفاق مع إِدارة “تلفزيون لبنان” لتصوير الحلقات في ستوديو تلَّة الخياط (القناة 7 يومها)، وأَوكلَت تنفيذَها إِلى الـمُخرج سيمون أَسمر الذي أُغرم جدًا بالفكرة وأَعدَّ لها إِضاءة خاصة وديكورًا مميَّزًا، وأَرسل كاميرا تصوِّر مشاهدَ خارجيةً تلائم موضوع بعض القصائد، كي يُطرِّزَ بها داخل الستوديو رقصاتِ جورجيت التي تَوَلَّت تصميم الملابس والسينوغرافيا والكوريغرافيا.
سبع قصائد
القصائدُ السبْعُ التي رقصَت على إِلقائها جورجيت هي: “الباب” لبدر شاكر السيَّاب، “عبير” لـجورج غانم، “ذاك المساء” لفدوى طُوقان، “شُؤُون صغيرة” لنزار قباني، “الناسكة” لالياس أَبو شبكة، “أَضحى التنائي” لابن زيدون، “كان لي بالأَمس” لـجبران.
استغرق تصويرُ الحلقات نحو شهرين (تموز/يوليو وآب/أُغسطس 1979)، وانتهى المونتاج بين التصوير الداخلي وتصوير خارجي لبعضها، كحلقة “الناسكة” لالياس أَبو شبكة التي طلبت جورجيت من المخرج تصويرَها في بلدة الشاعر (زوق مكايل) عند مطلٍّ على خليج جونيه، تجسيدًا مضمُونَهَا، إِذ على تلك الرابية بالذات كتبَت ليلى، حبيبةُ أَبو شبكة، رسالةً إِليه ترجمَها شعرًا، وفيها:
حبيبي، على هذه الرابيَه
أُحسُّ خيالكَ يرقى بِيَه
وما دفَّق الشعرَ من أَصغَرَيكَ
تَجَمَّع في هذه الناحيَه
أَراه على المنحنى والخليجِ
وفي هذه الغابة الجاريَه…
حبـيـبـي عـلى هـذه الرابـيَه
أُقَـرِّبُ للحبّ إِيمانِيَه
إِذا هجرَ الحبُّ دُنيا القلوب
فما تـنـفَـعُ الحِطَمُ الباقِيَه؟
شاشات عربية إِلَّا… شاشة لبنان
أَرسل تلفزيون لبنان السبع الحلقات إِلى عمّان، فبثَّها التلفزيون الأُردني ولقيَت إِعجابًا واسعًا جعل تلفزيونات عربية أُخرى تشتري حقَّ بثها في بلدانها. وشاهد معظمُ العالم العربي هذه التجربة الرائدة بين الشعر والرقص.
لبنان لم يعرض البرنامج في حينه، لِـحُجَّـتَين: أَن “الشعب اللبناني لا يحبّ الشعر” (عُذر إِداري غبيّ)، وأَن ناهدة فلسطينية ولبنان في حرب مع بعض الفصائل الفلسطينية (عُذر سياسي غبيّ).
وكانت مرَّت السنوات على الصديقتَين المتلازمتَين شخصيًّا وفنِّيًّا، وشاركتا معًا في برامج عدَّة، منها في اللجنة التحكيمية لبرنامج “ستوديو الفن” (تلفزيون لبنان 1974 – إِخراج سيمون أَسمر).
بعد وفاة ناهدة في أَميركا عن 73 عامًا (أَول كانون الثاني/يناير 2007)، حاولَت جورجيت من جديد إِثارة بث الحلقات من تلفزيون لبنان، إِكرامًا لتلك السيدة التي أَحبَّت لبنان وتخرَّجت من جامعته الأَميركية وقدَّمَت لإِذاعته وتلفزيونه برامج مميَّزة، فوافقَت الإِدارة أَخيرًا على بثِّها إِنما… بعد منتصف الليل.
هكذا انطوت صفحة ساطعة من كتاب الفن في لبنان، مع سيدةٍ في صوتها شِعرُ الشِعر، وسيدةٍ لبِسَت الموسيقى جسدًا، تعرَّت بخطواتها الكوريغرافية من كثافة المحظورات، وجعلَت من رقصها ابتهالًا إِبداعيًّا في هيكل الجمال.
أَما تلفزيونُنا الرسميّ التاعس، وهو ما زال منذ سنين ضوئية كثيفة بلا مجلس إِدارة ولا مدير عام، فنتمنى له مسْؤُولًا واسعَ الأُفُق الثقافي، يُمسِك بإِدارته حتى يَعودَ إِلى صورته البهية الرائدة، ويستحقَّ فعلًا شرفَ أَن يكون “تلفزيون لبنان”.
كلام الصُوَر
- جورجيت جبارة ترقص على قصيدة “الباب” للسيَّاب
- ناهدة فضلي الدجاني: إِلقاؤُها شِعرٌ في الشِعر
- ملاحظات جورجيت السينوغرافيَّة لقصيدة “الباب”
- ملاحظات جورجيت السينوغرافيَّة لقصيدة ابن زيدون
- جورجيت، محمد شامل، ناهدة (برنامج “ستوديو الفن”-1974)
- “بين خطوَتَين”: كتاب جورجيت جبارة في تجربة الباليه