هنري زغيب
إِنه الوجه الآخر لدى المبدع حين يدقِّق الباحثون بين سيرته ومسيرته. ففيما مسيرته مكشوفةٌ للمتلقِّين في كل عصر، يظل في سيرته الذاتية ظلٌّ كثيف لا يؤثِّر إِجمالًا على نتاجه لكنه يكشف خفايا أَو دوافع في بعض هذا النتاج. فماذا في سيرة ليوناردو وهو قمة النهضة الإِيطالية في القرن السادس عشر؟
في قَدَر ليوناردو داڤِنْتْشِي (1452-1519) أَنه لم يكن رسامًا فقط بل عالِمًا في الموسيقى والهندسة والرياضيات، واكتُشِفَت لاحقًا صوابيةُ أَفكاره الدقيقة وتدويناته العلْمية، وفي بعضها خلفية كثير من لوحاته ولوحات معاصرَيْه مايكل انجلو (1475-1564) ورافايـيلُّو (1483-1520) متأَثِّرًا ومؤَثِّرًا في مَن جاؤُوا بعدَه.
وإِذا كان هذا معروفًا في مسيرته، فماذا عن غير المعروف في سيرته؟
- ليس اسم أُسرته: معروف بــ”دا ڤِنْتْشِي” لكن هذا ليس اسمَ عائلته بل اسم مدينته الأُم (“ڤِنْتْشِي” ضاحية من مدينة فلورنسا في مقاطعة توسكانا – وسَط إِيطاليا). وكان شائعًا عصرئذٍ أَن يغْلب اسم المدينة على اسم العائلة. لذا غاب اسمُ عائلته وغلب اسمُه الأَول “ليوناردو” في معظم المتاحف والكتب الفنية والأَكاديمية.
- ولد غير شرعي: وُلِدَ من علاقة سرية بين الثري الفلورنسي پياترو وفلَّاحة شابة تدعى كاترينا، ما إِن ولدتْه حتى سارعت إِلى الزواج من عامل مجهول، لكن الطفل نشأَ في بيت أَبيه الثري الذي رُزِق في ما بعد بستة أَولاد شرعيين أَصغر من ليوناردو.
- بدون دراسة عادية: كان من العبقرية المبكرة أَنْ لم يتلقَّ الدراسة العادية. تعلَّم مبادئ القراءة والكتابة والحساب ثم طوَّرَها وحده لاحقًا حين كبُرَ، فأَتقنَ اللاتينية (اللغة الرسمية عصرئِذٍ) وتعمَّق في الرياضيات، شغفِه الأَكبر، وكان في العقد الثالث من عمره.
- قليل الرسم: مع أَنه أَحد أَبرز الرسامين في جميع العصور، لم يكن غزير الإِنتاج. لا يُعرَف له عمومًا سوى 17 لوحة. فلانشغال فكره بالأَبحاث العلْمية والمسائل الهندسية كان يرفض طلباتٍ لرسم اللوحات. وبين أَعمال حملت توقيعه، كـ”معركة أَنغياري” (1440، صراع بين مقاطعة فلورنسا ودوقية ميلانو) ولوحة الــ”ليدا” (1504) وسواهما، كانت أَصلًا دراسات تخطيطية وضعها سواه وضاعت أَو أُتلفَت فرسمَها هو بريشته العبقرية، ما أَثَّر في رسامي عصره ومَن بعدهم.
- التدَرُّب المتأَخر: لم يبدأْ بدراسة الرسم إِلَّا في الخامسة عشرة. وبفضل شهرة والده وثرائه، تمكَّن من الدراسة في محترف الرسام والنحات والصائغ الشهير أَندريا دِل ڤيرُّوتْشيو (1435-1488). لم يكتَفِ بتلقّي مبادئ الرسم والنحت بل تعمَّق لديه في أُصول الهندسة والعناصر التقنية في الفنون (كالكيمياء والمعادن). وكان في العشرين حين انتسب إِلى “جمعية الرسامين المحترفين الفلورنسيين” لكنه بقي بعدها خمس سنوات يعمل في محترف ڤيرُّوتْشيو قبل أَن يستقلَّ في محترفه الخاص.
- شغَفُه بالجسد البشري: امتد شغف ليوناردو حتى الجسد البشري. لم يكتف بتلقُّن رسمه بل تعمَّق به في تشريح نحو 30 جسدًا في مستشفيات ميلانو وفلورنسا وروما، ما مكَّنه من براعة استثنائية في رسم تفاصيل أَيِّ جزءٍ من الجسم، حتى الخفيّ منه كالقلب والدماغ والرئتين ووظائفها وَفْقَ أَحدث مكتشفاتها العلْمية في عصره. وكانت تلك الرسُوم قواعد ساعدَت رسامين جاؤُوا بعده.
- دفاتره لدى بِلّ غيتس: إِلى ريشته المبدعة كان لقلمه عمْق ظهر في تدويناته وأَفكاره وملاحظته. معظم دفاتره موزَّع في مؤَسسات كبرى مثل المكتبة البريطانية (لندن) ومتحف ڤيكتوريا وأَلبرت (لندن)، وخصوصًا لدى مؤَسس “مايكروسوفْت” الملياردير الأَميركي بِلّ غيتس الذي اشترى سنة 1994 بمبلغ 31 مليون دولار دفترًا مخطوطًا من 72 صفحة بخطّ ليوناردو كان دوَّنه بين 1506 و1510، وفيه أَفكار علمية، منها: سبب ازرقاق الفضاء، التماع القمر، حركة المياه في باطن الأَرض، وكيف تتشكَّل المتحجِّرات.
- تَلَف رائعته الكبرى: صحيح أَنْ خَلُدَت منه أَعمال خالدة كــ”الموناليزا” و”العشاء الأَخير” إِنما ضاع عمله الأَكبر: سنة 1482 كان ليوناردو غادر فلورنسا إِلى ميلانو كي يضع تمثالًا كبيرًا لفرنشسكو سْفورزا على جواده (بطلب من ابنه دوق ميلانو). اشتغل عليه 17 سنة (نظرًا لانشغالاته الأُخرى) فجاء نحو 5 أَمتار علوًّا، أَكبر من ذاك الذي صنعه معلمه ڤيرُّوتْشيو. سنة 1493 كان أَنهاه بالطين وجاء وقت صبِّه بالبرونز. لكن البرونز فترتذاك كان يؤخذُ لصبّ المدافع مواجهَةً خطر الاجتياح الفرنسي. وفعلًا سنة 1499 أَطيح الدوق الابن واجتاح الجنود الفرنسيون ميلانو ودمَّروا التمثال بالطين مُتْلِفين ما كان سيصبح أَكبر تمثال في عصر النهضة.
- المهندس العسكري: قبل سنوات من إِنجازه التمثال الضخم على الجواد، أَبرمَ اتفاقًا مع قيصر بورجيا قائد الجيش البابوي، وكان طامحًا فظًّا للسيطرة على مقاطعات إِيطالية عدة. وعمِلَ ليوناردو عشرة أَشهرٍ مهندسًا عسكريًّا فتجوَّل في معظم المقاطعات ليدرس ما فيها ووضَع تصاميم لعدد من المدن، وخرائط طوبوغرافية دقيقة ومفصَّلة.
- ختام حياته في فرنسا: في الستين من عمره (1502) اضطُرَّ ليوناردو إِلى مغادرة ميلانو لانتشار فوضى سياسية فيها. لجأَ إِلى روما لدى جوليانو دي ميديتشي (1453-1478) شقيق البابا كليمندُس السابع. كان يأْمل إِيجاد عمل في روما، لكنه حاز على راتب رمزي فيما معاصراه ميكال انجلو ورافاييلُّو نالا من البابا تكليفًا بوضع عدد من الأَعمال، ما أَغضبَهُ ودعاه سنة 1516 إِلى قبول دعوة الملك الفرنسي فرنسوا الأَول أَن يذهب ليعمل في بلاطه، فغادر إِيطاليا ولم يعد إليها. لم يرسم كثيرًا في فرنسا بل خطَّط عددًا من مشاريعه العلمية. وتوفيَ بعد أَربع سنوات وَوُوريَ في مدافن كنيسة سان فلورنتان التابعة لقصر أَمبواز الملكي (منطقة اللوار). وإِذ انهدمت الكنيسة إِبان الثورة الفرنسية، ثم أُزيلَت كلِّيًّا سنة 1802، ضاعت جميع الأَضرحة كما ليكتمل قَدَر ليونادرو أَن يضيع جثمانه مع ما ضاع من أَعماله العبقرية.
كلام الصور
- تخطيط لوحة “معركة أَنغياري” (1440)
- وجه الــ”ليدا” (1504)
- مخطط لوحة “المحاربَين” (1505)
- مخطط في دفتره الخاص لتصوير الجنين (1500)
- دراسة على تصوير الحصان (1494)